بعد فوز التحالف المدني الواسع الذي يشكله حزب نداء تونس في الانتخابات البرلمانية، بهامش مريح ولكن غير كافٍ لتشكيل حكومة من الحزب الفائز، بدأت التكهنات والتنبؤات من ناحية، والتصعيد من ناحية أخرى ضد الحزب الفائز، من قبل الأحزاب الخاسرة، وفي مقدمتها الشريكين السابقين في حكومة النهضة السابقة، حزب المؤتمر وحزب التكتل، فيما عادت النهضة للتكتيك المفضل والمُضلل :الخطاب المزدوج.
وفي انتظار الحسم في المقاعد نهائياً وكيفية توزيعها على الأحزاب، بعد سحب مقعد في محافظة القصرين من النداء وإسناده لحزب رئيس المجلس الوطني التأسيسي السابق، حزب التكتل، مصطفى بن جعفر، ليعود حزبه إلى البرلمان بمقعد يتيم، وفي انتظار الحسم في مصير 6 مقاعد أخرى، وربما نتيجة الطعون، يمكن القول إن النهضة منيت بهزيمة، تسببت في سحب البساط من تحت أقدامها، ومن تحت الإسلام السياسي عموماُ في كامل المنطقة العربية، وإعادة الاعتبار للعمل السياسي المدني.
عودة اللغة المزدوجة
وكانت النهضة أول المدركين لهذه الحقيقة المرة الجديدة، فعادت إلى لغتها المزدوجة، ففي الوقت الذي دعا فيه حزبها أنصارها، لاستعراض قوة أمام مقره في تونس العاصمة، بدعوى الاحتفال بالعرس الديموقراطي، عادت الحركة إلى تفصيل الخطاب، وفق توزيع متقن للأدوار، حسب الجمهور المستهدف والمستمع.
ففي الوقت الذي تتحدث فيه قيادات الصف الأول مثل الغنوشي عن مباركتها للنداء فوزه، والقيادات الثانوية عن فرحتها بالحفاظ على مكانتها المتقدمة في المشهد السياسي، في التفاف صريح على الإقرار بالصفعة، نشطت القيادات المتأخرة على الصفحات الاجتماعية ومواقع التواصل كاشفة الوجه الحقيقي للحركة، بعد أن اعتبر بعضها ببساطة أن هزيمة 26 أكتوبر (تشرين الأول) “أُحد جديدة خسرها المسلمون” بعد غرورهم وسقوطهم في فخ استسهال “العدو”.
ولكن الصفعة الكبرى التي وجهها السبسي للنهضة بقطع الطريق أمام التحالف الآلي معها، أسقط آخر ما تبقى من القناع الهش الذي كان على وجه النهضة والإخوان عموماً في تونس وفي الخارج، ما يكشف ارتفاع نسق التصريحات والتحركات التي شهدها المشهد السياسي التونسي منذ يومين.
كابوس اسمه غنيم
ففي شريط بثه على الأنترنت، أطل القيادي الإخواني وجدي غنيم، بخطبة جديدة قديمة، اتهم فيها الفائزين في الانتخابات بـ”أقذر العلمانيين” و”الكفرة” والذين كانوا يستفزونه حسب قوله عندما كان في تونس “بشرب الخمر أمام الجامع الذي كان يؤدي فيه صلاة الجمعة” وكأن “هذا المسلم المثالي” أدى صلاته في الشارع أو على ناصية الطريق، ليستفزه الكفرة بشرب الخمر أمامه.
لكن إذا كان هذا الوجه الإخواني المعروف بكذبه ونفاقه وتحامله، فإن ذلك يكشف على الأقل، تحركاً شاملاً إخوانياً في الداخل والخارج، من التصريحات الحزبية إلى الإعلام الاجتماعي انتهاءً بالجزيرة نفسها.
لعبة قناة الجزيرة
وبخصوص الجزيرة مثلاً، يشار إلى تعمد القناة منذ تأكد فوز النداء، تقليص الفارق بينه وبين النهضة، وكانت تغطية الموقع الإلكتروني للجزيرة تتحدث حتى الأربعاء، عن تقدم النداء – دائماً- باستعمال: “حوالي”، أما النهضة فنتائجها دقيقة، بقولها حوالي 37% مقابل 35%، في محاولة لتضييق الفجوة، بينهما.
ولم تكتف القناة بذلك بل تبث هذا المساء، الخميس، فيلماً وثائقياً، عن اغتيال شكري بلعيد، ويذكر في هذا السياق أن العمل كان مقرراً ليلة الانتخابات، السبت 25 أكتوبر(تشرين)، واعتماداً على ما تسرب من الجزيرة نفسها، فإن هذا العمل الذي يقوم على شهادات متطرفين تونسيين من أنصار الشريعة، متهمين بتنفيذ العملية، وللإشارة يوجد أكثرهم في ليبيا وسوريا والعراق، يهدف إلى تبرئة “أنصار الشريعة” من دم بلعيد، ولكن أيضاً على وجه خاصٍ، تبرئة النهضة وبعض قياداتها التي تورطت في العملية حسب أكثر من جهة، وإلقاء اللائمة على المعسكر المدني التي تصر بعض الجهات على تسميته بالعلماني، بما فيه التيار الذي كان ينتمي إليه الشهيد التونسي بلعيد.
الحمائم وإسقاط البرلمان
ولا يكتمل المشهد الجديد، إلا بتصريحات الرجل السياسي”الحمامة” حسب بعض التعبيرات في النهضة، عبد الفتاح مورو، الذي يهدد الأربعاء في تصريحات تلفزيونية بإسقاط البرلمان الجديد، في ظرف سنة، إذا لم يكن للنهضة وحلفاؤها دور كبير في المرحلة القادمة، فتعود النهضة من جديدة تحت قبة البرلمان، بعد فوزها في الانتخابات الاستثنائية المنتظرة .
وإذا كانت النهضة بمختلف تياراتها، تستعد للدخول في معركة كسر عظام مع الحكومة والبرلمان الجديدين، فذلك لإنها تُدرك أنها أكثر كفاءة وفاعلية باعتماد العمل السري الذي مارسته وخبرته ثلاثين عاماً، على عكس السنوات الثلاث التي قضتها في السلطة والتي أثبتت فيها عجزها وقصورها من جهة فضلاً عن فشلها في فرض “إخوانيتها” على المجتمع التونسي، ما كلفها الأغلبية البرلمانية في الداخل وسخطاً هائلاً من التنظيم الدولي للإخوان.
الباب المغلق
ويعود السخط الهائل الذي يعتري التنظيم الدولي للإخوان، لشعوره بإغلاق باب تونس في وجهه، وهو الذي كان يرى فيها فرصته الوحيدة الأخيرة للنجاة وتأجيل قبر مشروعه، وإعادة ترتيب شؤونه للانقضاض على السلطة في مصر من جديد، فإذا التصويت من جهة، وإعلان الباجي قائد السبسي من جهة بأنه لن يسمح للقيادات الإخوانية باللجوء إلى تونس، بدد الحلم الإخواني، وزادت من متاعب التنظيم والحركة، التي تواجه خطر إعلانها حركة إرهابية في تونس أيضاً في ظلّ الحكومة المنتظرة.