أمس، ٢٢ نوفمبر، عيد ميلاد عصفورة العذوبة الغرّيدة فيروز. لأول مرة منذ سنوات طوال، لا أكتب مقالي السنوي المعتاد الذي أهديه لها في عيد ميلادها كل عام. وأمس، كان أيضًا موعد تتويجي بجائزة جبران العالمية التي أطلقتها رابطة إحياء التراث العربي في سيدني الأسترالية منذ ١٩٨١. وكانت كلمتي التي ألقيتُها في هذه المناسبة، حيث بدت لي أكثر من مجرد مصادفة أن يتواكب ميلادُ فيروز مع ميلادي كجبرانية جديدة من أرض الفراعنة، تنضمُّ إلى الشجرة الوارفة من أبناء جبران وبناته. تلك الشجرة التي تبسط ظلالها على كامل كوكب الأرض فتعبرُ الجغرافيا، مثلما تخترق أغصانُها الأزمنةَ والحقب المتعاقبة، فتعبرُ التاريخ.
اكتفيتُ إذن بأن كلمتي بالأمس احتوت فيروز، فكانت بمثابة المقال السنوي، هديتي لها. ونمتُ قريرة العين وأنا أحمل تاج جبران فوق رأسي، وحبَّ فيروز في قلبي. لكن، عند الفجر، شعرت بشيء من عدم الراحة، وكأنما هي إشارة غير جميلة أن أدع عامًا يمرُّ دون مقالي المعتاد. فقررتُ أن أصلح خطأي.
يكاد اللبنانيون من أصدقائي يندهشون من ولعي بفيروز حدَّ أن أعتبرها فوق النقد، أنا التي تزعم الليبرالية واحترام الرأي الآخر وكل ما نصدّع به الناس من شعارات، ربما تتكسر عند أول اصطدام برأي يجرح قناعاتنا بشدة، فنكتشف أننا نشبه كثيراً من نعارضهم ونأخذ عليهم أحادية تفكيرهم وعدم قبولهم الرأي الآخر!
لماذا أعتبر فيروز فوق النقد كأحد أيقونات الجمال غير المعيارية التي من الصعب أن تخضع لتفنيدات النقد الفني لدراسة أسباب الاكتمال أو النقصان؟ وتصل بي الفاشية حدّاً غير مقبول إذ أعتبر أن عدم تذوّق فيروز خطيئة جمالية ووجودية وفلسفية، بل وسوء أدب.
أتذكر شاعراً سورياً جاهر أمامي بعدم إعجابه بأغاني فيروز، ولما قرأ علامات الدهشة والاستنكار في ملامحي التي تتأهبُ لمعركة وانقضاض، بادرني بتفسير، يحمل من الطرافة قد ما يحمل من فلسفة. قال: فيروز أكثرُ جمالاً مما يحتمل المرء! يا إلهي! حتى ولو كانت سفسطةً وهروباً ديبلوماسياً من مأزق جماليّ، فإن كلامه يحمل حقيقة ما. فثمة درجات من الجمال تصيب المرء بالاختناق. أسميها “اسفكسيا الجمال”، وهذا مصطلح من تأليفي، لاحترام الملكية الفكرية.
حدّثنا ماركس أن أقصى اليسار السياسيّ هو أقصى اليمين السياسيّ. فالتطرّف التام في معارضة النظام ينطوي، بشكل أو بآخر، على خضوع تام تحت لوائه. وبالقياس، فإن الدرجات العليا من الجمال قد تتأبى على الاحتواء ضمن الذائقة البشرية المطمئنة. المثال الأشهر هو النار. ليس أجمل من شكل اللهب في تراقصه وتبدّل ألوانه وفيوضه بين الأحمر والبرتقالي والأرجواني والأزرق. لذلك ابتكر الإنسان الشمعة التي تغذي فيه منازع الجمال والرومانتيكية. النار في بهائها اللانهائي هذه لا نستطيع لمسها. ليس فقط لأنها حارقة، بل لأن جمالها عصيٌّ على التحمّل. كيف بوسعنا أن نستوعب أن هذه الشمعة تتوسط حبيبين يتناجيان في مكان ما، هي ذاتها تجعل طفلاً في مكان آخر يصرخ وجعًا بعدما التهمت جسده!
ونتذكّر “چون شتاينبك”، في رواية “اللؤلؤة” عن الصياد “كينو” أفقر صيادي الهنود الحمر، وزوجته “چوانا” وابنهما الرضيع “كويوتيتو” الذين يعيشون في كوخ من أعشاب الشجر يصطادون اللؤلؤ من خليج المكسيك، فيشتريه التجار الشطّار بالبخس بسبب جهل الصيادين وفقرهم الذي لا يشبهه فقرٌ آخر. وذات منحة سماوية، أو جحيمية، ينجح كينو في اصطياد “لؤلؤة العالم”، أكبر لؤلؤة صنعها بحر. لكنها، من فرط جمالها، كانت نقمة عليه وعلى أسرته، تسببت في حصده كراهية الجيران وحرق بيته وقاربه وموت طفله، فما كان إلا أن ألقاها من جديد في الماء!
فهل تنتمي فيروز لهذا النمط من الجمال الذي قد لا يحتمله البعض، مثل الكائن الذي لا تُحتمَل خفّته؟ ربما! المهم لدي هو أن عاماً لا يمرُّ دون أن أقول لجارة القمر: عيشي ألف عام وكوني بخير، وسامحيني أن تأخر المقالُ عن موعده يوماً.