يرددون كما لو كانوا آلات كلمات النصوص دون أن يفهموا معناها، وبدون أن يهتموا بفهمها، وربما يكرسون جهدهم لدراسة قضايا شرعية ذات طابع خاص، ولكن بدون أن يلجأوا إلى مصادر النصوص، لكي يبحثوا فيها عن أدلة فتاواهم أو أحكامها؛ لأن الشيء الوحيد الذي يشغلهم هو المحافظة على قدرهم ومكانتهم الاجتماعية، أو يكرسوا وقتهم لرواية آثار لا يصدقها عقل، وبالإضافة إلى ذلك فإن هذه المدرسة تدين وترفض كل لون من ألوان الاستدلال المنطقي، ولكي تبرر حقدها فإنها لا تتوقف عن القول: إن الجدال قد حرم علينا، وأنا أود أن أعرف من الذي حرمه.
هكذا كان يرد ابن حزم على علماء عصره الذين اتهمهم بالجمود وركود الفكر، وبسط لسانه وقلمه للرد عليهم ومناظرتهم، الأمر الذي لم يرُق لهم، فانتقموا منه بطريقتهم. يقول الذهبي عن هذا في كتابه سير الأعلام: لم يتأدب مع الأئمة في الخطاب، بل فجج العبارة، وسب وجدع فكان جزاؤه من جنس فعله، بحيث إنه أعرض عن تصانيفه جماعة من الأئمة وهجروها، ونفروا منها، وأحرقت في وقت.
أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معدان بن سفيان بن يزيد الأندلسي القرطبي، فقيه وأديب وشاعر، تكون علمه على المذهبين المالكي والشافعي، فزاد فضوله العلم ومعلوماته العقدية، ومعرفته بعلم الكلام، كان حفيدًا وابنًا لموظفين في بلاط الخلافة في قرطبة، عمل بالسياسة وكان له ولاء للدولة الأموية، وحاول جاهدًا إعادة سلطة الخلافة أكثر من مرة، لكن انخراطه بالسياسة، ونشأته في البلاط أثرى رؤيته السياسية ونظرته للواقع، واعتبرت مؤلفاته، التي وصلت إلى 80 ألف ورقة، مصدرًا تاريخيًا لمعرفة الأندلس وأحوالها.
الجذور التاريخية للخلافات بين علماء الدين والفلاسفة عميقة للغاية، والتي تصل للتكفير، وحرق المؤلفات، والطرد. هذه الخلافات ليست بين الفلاسفة ورجال الدين المسلمين فقط، لكن حتى اليهود والمسيحيين. أراد ابن حزم التوفيق بين الفلسفة والدين، فيقول: الفلسفة على الحقيقة إنما معناها وثمرتها والغرض المقصود نحوه بتعلمها ليس شيئًا غير إصلاح النفس، بأن تستعمل في دنياها الفضائل وحسن السيرة المؤدية إلى سلامتها في المعاد وحسن السياسة للمنزل والرعية، وهذا نفسه، لا غير، الغرض من الشريعة. وتطرق ابن حزم كذلك إلى العلم الإلهي وحرية الإرادة والقضاء والقدر، وطبيعة النفس الإنسانية، حيث في كل هذا حاول التوفيق بين عقل الإنسان وإيمانه، في النهاية كلٌّ من الفلسفة والدين يتفقان في موضوعهم، كما يقول ابن السيد، هذا الموضوع هو البحث عن الحقيقة، وفي غايتهما وهي سعادة الإنسان، لكن اختلافهم في الطريقة الاستدلالية، العقل أو الإقناع!
ربط ابن حزم بين الفلسفة والدين، واعتناقه المذهب الظاهري فيما بعد ورفضه لتفسيرات علماء عصره، وغيرها من التفسيرات القديمة الجامدة التي لا يقبلون فيها نقاشًا أو تجديدًا،مثل رأيه في عمل المرأة وتوليها للمناصب العليا كالقضاء، وإجازة نبوتها، ونداءه بحقوق الأرقاء، واعتناقه للمنطق واعتباره رأس العلوم الإسلامية، ألب علماء عصره عليه، ولأن الفكر يحارب بالفكر عقد معهم المناظرات، لكن جرأته وثقته بنفسه أزعجتهم، وأوشوا به لدى البلاط، ومن القرون الوسطى في أوروبا إلى القرن التاسع والعاشر في الأندلس يا قلب لا تحزن، فعلى أعين الناس في المحاضر العامة، أحرقت كل أعمال ابن حزم، كما فعل بمؤلفات ابن رشد بعدها، لكن تلاميذ ابن حزم استطاعوا جمع كل هذا التراث الفكري مرة أخرى، فجمعوا ما كانوا يحتفظون به ونسخوه ونشروه بين الناس.
كل من كان بالأمس تهمًا في دينه وعقله، يفتخرون به اليوم، وكل ثقافة تنسبه لها، فنقول: نحن المسلمين لدينا مفكرون عظام كابن حزم وابن رشد وابن مسرة، ونصنع لهم التماثيل، ونضع صورهم على طوابع البريد. ألا يدعو ذلك للتفكر؟ وإعطاء قيمة الشك حقها؟ لو أن الله حرم التفكير لماذا وهبنا العقل إذًا؟ كل هؤلاء المفكرين كانوا علماء، لم يكونوا يقولون بآرائهم تلك على سبيل العبث، بل درسوا الفقه والمنطق والفلسفة والرياضيات والطبيعة والفلك والبلاغة واللغات، واطلعوا على الثقافات المختلفة، وقرأوا في الأديان والتاريخ والفلسفات المتعددة، بينما يخرج علينا أحدهم ليس له من الدين سوى لحية طويله ويقول بالحل والحرمة، والآخر الذي ليس له من الثقافة سوى بعض المظاهر ويقول: إنه فنان بويهمي يفعل ما يحلو له، فيتهم الآخرين بالجمود والجهل والرجعية.
بمباركة العلماء، وبأمر من المعتضد بالله، نُفي ابن حزم من قرطبة، وظل ينتقل من بلد إلى بلد؛ حتى مات من عاش في النعيم والقصور وحيدًا.. ومنسيًا. مات وترك إرثًا لكل من أراد أن يفكر ويعرف، ورثا نفسه فقال:
كأنك بالزوار لي قد تبادروا وقيل لهم أودى على بن أحمد
فيارب محزون هناك وضاحك وكم أدمع تزرى وخد محدد
عفا الله عني يوم أرحل ظاعنًا عن الأهل محمولًا إلى ضيق ملحد
وأترك ما قد كنت مغتبطًا به وألقى الذي آنست منه بمرصد
فوا راحتي إن كان زادي مقدمًا ويا نصبى إن كنت لم أتزود!