الان وقد ذهبت السَّورة ورقأت العبرة وجاءت الفكرة ، اتساءل – عن وعي كامل – لماذا كل هذا الغضب العارم ازاء كتلة احجار صامتة تهاوت بعضا على بعض ، لم تنفعنا بالامس ولا اظنها ستنفعنا في الغد . لو ان ما حدث في الموصل ، حدث في ستوكهولم او برلين او طوكيو لبكيت دما مدرارا لان الخسارة نوعية لا تعوض ، اما وان يكون مسرح الحدث العراق ، فلم يعد يهز شعرة في مفرقي مقارنة بما يحدث على الارض يوميا
ما قيمة احجار نتغنى بها ونتبارى في نظم المعلقات تغزلا بها ، مالم تحرك فينا منذ اربعة الاف سنة و اكثر دافعا للابداع او تخلق في صدورنا مساحة للخلق و الابتكار ، اتكأنا على هذه التماثيل الاف السنين والنتيجة ان البلد اليوم يصاب بالشلل التام اذا انخفض سعر النفط دولارا واحدا . وليس بعيدا عنا جدا وصف القرآن الكريم … كمثل الحمار يحمل اسفارا … فقد اصبحنا بعد كل هذا الارث التاريخي العميق لا نجيد الا لغة توجيه الاتهام واحالة كل ما جرى ويجري الى تآمر الاعداء علينا وكأن الله لم يخلق سوانا على هذا الكويكب و اننا نحن المستهدفون الوحيدون فيه . احدهم بعث لي رسالة على الخاص طالبا مني نشرها على العام يفيد بما يقول انه يستند الى وثائق دامغة بضلوع سليماني الايراني تخطيطا وهادي العامري العجمي تنفيذا و اوباما الاميركي دعما لتهديم اثار الموصل ، حتى يخلو لهذا الثلاثي المرح وجه الحضارة
الجريمة نكراء ، نعم نكراء بكل ما تحويه هذه الصفة من معنى ، لكن كل ذلك مضافا اليه كل التماثيل والمحاريب الموجودة في العالم وليس في ارض الرافدين فقط لا تساوي عندي – والأرجح عند الله ايضا – دمعة طفل واحد اصبح وقد فقد اباه أو امه او كليهما معا و بفقدهما فقد حاضره ومستقبله ، فاستقبلته افواه مكبات نفايات الجنوب النفطي البئيس . والحال ، نحن في بلد دُفنت في ترابه اثار عائلات واسر بكاملها و سجلت جرائم لا تعد ولاتحصى ضد مجهولين واغلقت الملفات الى الابد ( ولم تطلق على الجاني رصاصة بندقية) كما يقول نزار
ساحزن مثل حزنكم وانظم قصائد الرثاء كما فعل شعراؤنا المُمَلينين لو ان مسرح الحدث كان فيه خبر موت الانسان نادرا يثير حفيظة احد ، اما واننا نصبح على مجزرة ونبيت على مذبحة مستقبلين اياما يهرم فيها الصغير ، ففيم الحزن والتباكي على كومة احجار لم تنفعنا في شيء بالامس ولا اظنها ستنفعنا في صناعة الغد . ورحم الله كل يد باركها الله فسرقت من تلك الاثار فحفظتها وحافظت عليها وتعلمت منها وعلّمت بها . اما نحن فلا حفظناها ولا حافظنا عليها ولا تعلمنا منها ولم نعلم احدا بها ، و اثبتنا عمليا لله و التاريخ ان سُراق الاثار ابيض منا يدا ، فقد حفظوا ما فرطنا به مهما كانت غاياتهم . فهل اسمع بعد اليوم من يتعرض لهؤلاء بسوء “لاقدّر الله”
انظروا الى وجوهنا وصورنا المنشورة على الفيسبوك كلها نضرة ضاحكة مستبشرة تدعو الى التسامح والتاخي في بلد الفسيفساء العرقي . لكن يكفي واحدَنا ان يختلي لحظة واحدة بمن يشاركه العقيدة او الراي لينسفا معا شعبا باكمله مالا تفعله حتى البهائم . عدت من العراق قبل اسبوعين لمست هذا التنافر لمس اليد في المقهى والمكتب وشارع المتنبي والملعب وبيوت الله وبيوت الدعارة “اجلّكم الله” ، في كل مكان على الاطلاق . الجميع يخطط للاطاحة بالجميع ، والجميع يتعامل مع بلده كخيمة محروقة . و كل هؤلاء الجميع يرون انفسهم على حق في ممارسة هذا الحق الالهي المشروع
هذا الانهيار المجتمعي لا يثير حفيظة او شفقة احد بينما العراق من شماله الى جنوبه يبكي “بتصنع احيانا” اثار الموصل المنهارة ، بدمعة حرى واحدة تتناسب وحجم الفاجعة . للتذكير فقط فان فتاة دون العشرين في هذه المدينة المنكوبة توالى عليها عشرون “جهاديا” في يوم واحد وكانت تمضي يومها بين الصحو و الاغماء وذنبها الوحيد انها لا تدين بديننا فاستكثرنا حتى نشر خبر عنها ، ربما صونا للعرض كما يقول النَّواب في وصف القدس !!! وهنا تاتي المفارقة الكبرى ، نبكي بكل سخاء على الحجارة التي خلَفها اباء هذه الفتاة قبل الاف السنين ولا نذرف دمعة على حفيدتهم التي مكنَا وحوش الارض منها .. ترى من الاولى بالبكاء عليه ، نحن المنهارين … ام قطع تراث انتقلت من كونها تحفيات انيقة معطلة الى ركام داعشي يسر الناظرين