رغم إنفاق دول العالم ما يزيد على 8 مليارات دولار سنوياً على مكافحة عمليات غسل الأموال، فإنها فشلت في القضاء عليها، حتى باتت نسبة الأموال التي تدخل في هذه العمليات تتجاوز 5% من حجم الاقتصاد العالمي.
وأصبحت عمليات غسل الأموال من أخطر ما يهدد الأمن الاقتصادي العالمي، في ظل نموها المتسارع ومشاركة مؤسسات اقتصادية عملاقة فيها، علاوة على أنها مؤشر على تصاعد الجريمة المنظمة عالمياً.
5 % من اقتصاد العالم
وفي عام 2017، قدَّر مكتب الأمم المتحدة المعنيُّ بالجريمة والمخدرات (UNOV)، قيمة عمليات غسل الأموال على مستوى العالم بنسبة تتراوح سنوياً ما بين 2 و5% من حجم الناتج الإجمالي العالمي، وهو ما قُدِّر حينها بتريليوني دولار.
وتتفق تقديرات صندوق النقد الدولي لحجم عمليات غسل الأموال في عام 2018 مع تقديرات الأمم المتحدة.
إلا أن مؤشر “بازل” لمكافحة غسل الأموال، الصادر عن معهد “بازل” للحوكمة (مقره سويسرا)، قال في تقريره السنوي لعام 2017: إن “حجم عمليات غسل الأموال في العالم يتراوح بين 500 مليار دولار وتريليون دولار سنوياً، وهو ما يشكل 1% من حجم الاقتصاد العالمي البالغ 85 تريليون دولار”.
وظاهرة غسل الأموال ليست بالأمر الطارئ، إلا أنها تتخذ كل يوم بُعداً جديداً، وتتبع أساليب مبتكرة بالتزامن مع الانفتاح الاقتصادي والإجراءات التي تتخذها السلطات في كثير من البلدان لمنع هذه العمليات.
وعمليات غسل أو تبييض الأموال جريمة اقتصادية تهدف إلى إضفاء شرعية قانونية على أموال تم الحصول عليها من مصدر غير شرعي، لغرض حيازتها، أو التصرف فيها، أو إدارتها، أو حفظها، أو استبدالها، أو إيداعها، أو استثمارها، أو تحويلها، أو نقلها، أو التلاعب بقيمتها إذا كانت محصَّلة من جرائم.
وتبدأ عمليات غسل الأموال بإيداع النقود غير المشروعة في مؤسسة مالية، أو يتم تحويلها إلى عملات أجنبية، أو شراء سلع باهظة بها.
وفي المرحلة الثانية يتم التمويه على هذه الأموال حتى يصبح من الصعب تتبُّع مصدرها، وذلك من خلال تكرار عملية تحويلها من بنك إلى آخر، والتحويل الإلكتروني لها، وتحويلها إلى بنوك لديها قواعد صارمة فيما يتعلق بسرية الإيداع.
والمرحلة الختامية لغسل الأموال يترتب عليها إضفاء طابع الشرعية على الأموال، ومن خلالها يتم دمج الأموال في الدورة الاقتصادية، لتبدو كأنها عوائد أو مكتسبات طبيعية لصفقات تجارية مثل الشركات الوهمية والقروض المصطنعة.
8 مليارات لمكافحتها
ويقول تقرير صادر عن معهد “بازل” الدولي في ديسمبر 2018، إن عمليات غسل الأموال تتسبب في شلل اقتصادات الدول وتشويه التمويل الدولي، وتُلحق أذى بالمواطنين في جميع أنحاء العالم.
وتؤدي عمليات غسل الأموال، وفق التقرير نفسه، إلى انخفاض سعر صرف العملة الوطنية، حيث إن عملية غسل الأموال ترفع الطلب على العملات الأجنبية من خلال تحويلها إلى بنوك خارجية؛ ومن ثم يرتفع العرض على العملة الوطنية؛ وهو ما يؤدي إلى انخفاض قيمتها مقابل العملات الأجنبية وضعف قيمتها الشرائية.
وإضافة إلى الخسائر المباشرة للاقتصاد العالمي من عمليات غسل الأموال، فإن دول العالم تنفق سنوياً على مكافحة هذه العمليات ما يزيد على 8 مليارات دولار، بحسب الاتحاد الدولي للمصرفيين العرب.
وتحتل عمليات غسل الأموال، وفق تقديرات صندوق النقد الدولي، المركز الثالث بين الأعمال التجارية عالمياً بعد تحويل العملة وتجارة النفط.
وأحدث عمليات غسل الأموال المكتشفة، اكتُشفت العام الماضي، حيث أظهرت تحقيقات أُخضع لها المصرفي السابق هوارد ويلكنسون، تورط 10 بنوك عالمية في غسل أكثر من 150 مليار دولار من الأموال الروسية المشبوهة.
وتشمل شبكة البنوك 4 داخل روسيا، و3 وحدات تابعة لبنك “دانسك” الدنماركي في إستونيا وليتوانيا والدنمارك، إضافة إلى 3 بنوك أمريكية.
والعام الماضي أيضاً، كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية، في تقرير لها، عن تورط أكبر بنك دنماركي بالولايات المتحدة وهو “دانسك بنك” في فضيحة غسل أموال، حيث اتُّهم بغسل ما يقرب من 230 مليار دولار من السيولة المشبوهة من خلال فرع صغير تابع له.
مراكز غسل الأموال
وبحسب مؤشر “بازل” لمكافحة غسل الأموال لعام 2018، فإن أكثر 20 دولة تنتشر فيها عمليات غسل الأموال هي على الترتيب: طاجيكستان، وموزمبيق، وأفغانستان، ولاوس، وغينيا بيساو، وميانمار، وغامبيا، وليبيريا، وكينيا، وفيتنام، وهايتي، وبنين، وسيراليون، والرأس الأخضر، وزيمبابوي، واليمن، وباراغواي، ونيكاراغوا، وتنزانيا.
ووفق المؤشر نفسه، فإن لبنان حلَّ بالمرتبة الـ27 عالمياً من حيث انتشار عمليات غسل الأموال فيه، والسودان بالترتيب الـ29، والمغرب الـ57، وتونس الـ59، والإمارات الـ72، والبحرين الـ81، ومصر الـ87، والكويت الـ90، والسعودية الـ93، وقطر الـ107، والأردن الـ111 من أصل 129 دولة دخلت بالتصنيف.
وقدَّر مؤشر “بازل” أن 4 دول فقط أحرزت تحسناً في مكافحة غسل الأموال بين عامي 2017 و2018، وهي: غانا، وبوليفيا، وتنزانيا، وترينيداد.
كما أظهر المؤشر الدولي، وهو الوحيد الذي يُصدر مثل هذا التصنيف، أن 42% من الدول ارتفعت فيها عمليات غسل الأموال.
ولاحظ المؤشر أن معظم الدول تحقق تقدماً ضئيلاً أو لا تحقق شيئاً نحو القضاء على الفساد وغسل الأموال، كما لا توفر المعلومات الكافية عن كيفية تدبير الأموال العامة.
ويستند مؤشر “بازل” في تصنيفه للدول على مؤشرات عدة؛ منها: قياس نسبة التزام الدول المعايير المالية، وسيادة القانون، والإجراءات المصرفية، والشفافية، إضافة إلى الفساد والمخاطر السياسية والقانونية.
الإمارات “جنة” غسل الأموال
ورغم أن الإمارات تأتي في التصنيف الـ72 عالمياً في مؤشر “بازل”، فإنه في السنوات الأخيرة رصدت بعض التقارير الدولية تحوُّلها إلى مركز عالمي لعمليات غسل الأموال، ووصفتها تقارير أخرى بأنها “جنة غسل الأمول”.
والعام الماضي، كشف تقرير صادر عن منظمة الشفافية الدولية أن مدينة دبي الإماراتية أصبحت “جنة لغسل الأموال”، وباتت مركزاً عالمياً نشطاً لهذه العمليات.
وقالت صحيفة “الغارديان” البريطانية، في يونيو 2018: إن “دبي تخطت جزيرة كوستا ديل كرايم الإسبانية المعروفة بأنها أسوأ مكان في العالم من حيث غسل الأموال”.
وذكرت الصحيفة أن محققين بريطانيين يدرسون معلومات مسربة للعقارات في دبي، تُبين أن بريطانيين استخدموا دبي لإخفاء 16.5 مليار جنيه إسترليني كضرائب للمملكة المتحدة، ما بين عامي 2005 و2016.
وأوضح رود ستون، مساعد مدير وحدة التنسيق الوطنية للإيرادات والجمارك الخاصة بالجريمة المنظَّمة، وفق الصحيفة، أن المحتالين كانوا يودعون البضائع في دبي عام 2005، لشل قدرة سلطات الضرائب على معرفة تحركاتها.
وفي مارس 2017، كشف تقرير أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية انخراط مؤسسات مالية بالإمارات في معاملات نقدية تنطوي على مبالغ كبيرة من العائدات المتأتية من الاتجار الدولي بالمخدرات.
وصنف التقرير الإمارات من ضمن البلدان الرئيسة في مجال غسل الأموال، لتكون الدولة الخليجية الوحيدة التي تدخل ضمن هذا التصنيف.
وذكر أن جزءاً من نشاط غسل الأموال في الإمارات يرتبط بعائدات غير قانونية من المخدرات المنتَجة بجنوب غربي آسيا.
وأشار إلى أن جرائم غسل الأموال وتبييضها في الإمارات تشمل بشكل رئيسٍ القطاع العقاري وتجارة الذهب والألماس.
وفي تقرير صادر عن الحكومة البريطانية، منتصف عام 2017، جاءت الإمارات على رأس قائمة الدول العشر الأولى التي يتجه إليها المجرمون البريطانيون عندما يريدون غسل أموالهم.
وأوضح التقرير، الذي نشره موقع “بيزنس إنسايدر” الأمريكي، أن الإمارات أصبحت أهم محطات إعادة التدوير النقدي غير الشرعي في العالم.
وإضافة إلى ما سبق من مؤشرات وتقارير دولية، اعترف المصرف المركزي الإماراتي، في عام 2017، بأن جرائم غسل الأموال في البلاد ارتفعت بنسبة 30%، رغم القوانين التي صدرت بمجال مكافحتها.