وجد الفلسطينيون بزيهم التراثي الملون والمزركش بأبهى أشكاله سبيلاً قوياً لمقارعة الاحتلال الإسرائيلي، الذي يحاول جاهداً رسم مخططاته العنصرية لطمس الهوية الفلسطينية، وتزييف تاريخها وحاضرها وحتى القضاء على مستقبلها.
الثوب الفلسطيني بالنسبة لأهله هو الأرض والناطق باسم الحياة والصمود، ورغم توالي الأجيال فإنه لا يزال رمزاً يعبر عن الانتماء للوطن، الذي عاني الأمرين من الاحتلال واضطهاده وجرائمه طوال أكثر من 70 عاماً.
وفي إطار معركة الصمود والتحدي المفتوحة بأشكالها المختلفة مع المحتل، قرر الفلسطينيون أن يختاروا أياماً من كل عام، تخصص لتكون رمزاً لسيادتهم وعنواناً لحضارتهم وتراثهم وتمسكهم بهويتهم التي ترفض الاندثار أمام الاحتلال.
الفكرة بدأت في الضفة الغربية ثم انتقلت “عدوى حب الوطن” إلى قطاع غزة، فتحمس لها الرجال والنساء والأطفال وحتى الشيوخ، فالكثيرون ارتدوا ما يناسبهم ويفضلونه من الزي الشعبي، وخرجوا للشوارع وأماكن عملهم وتجمعهم مزينين بالألوان الحمراء والزرقاء والخضراء والسوداء، التي حيكت بعناية ورسمت صورة أغضبت كثيراً الاحتلال من شعب يقاوم حتى في ملبسه.
عنوان وطن
“بثوبنا الجميل وشكله الخاص المطرز يعلم الجميع من نحن، ويتذكر حاضرنا وتاريخنا وهويتنا الفلسطينية العريقة، فلا يستطيع احتلال طمسها وستبقى دليلاً على أن الفلسطينيين هنا وما يزالون”، بهذه الكلمات بدأ المنسق معين فرج الله حديثه لـ”الخليج أونلاين”، عن مبادرة الزي التراثي الفلسطيني، التي يشرف عليها في مدينة رام الله بالضفة الغربية المحتلة.
ويوضح أن هذه المبادرة التي أطلقت رسمياً قبل 5 سنوات تقريباً وجدت في هذا العام أكبر تفاعل ومشاركة من قبل الفلسطينيين، وانتقلت لأول مرة لقطاع غزة، بعد أن كانت مقتصرة احتفالياتها على الضفة فقط.
ويشير إلى أن هذه المبادرة “كانت تحدياً ومقاومة من نوع آخر للمحتل الإسرائيلي الذي يحاول جاهداً وبكل الطرق الخبيثة طمس الهوية والتراث وتزييف التاريخ الفلسطيني، وكان للمبادرة الكلمة الأقوى بان فلسطين وتراثها لا تزال حية بأهلها”.
وعن سبب اختيار الثوب الشعبي الفلسطيني ليكون عنوان التحدي مع المحتل، يؤكد المنسق فرج الله لـ”الخليج أونلاين”، أن الثوب التراثي هو “مقاومة وعنوان وطن ومعركة وجود وصمود مع “إسرائيل”، ورسالة للعالم بأن هذا التراث الملون والمزركش بألوان الأزهار المغروسة بعمق هذه الأرض الطاهرة والتي ارتوت كثيراً بدماء الشهداء والمقاومين، لا يزال ينبض حياة ولن يموت”.
ويزيد في حديثه: “العديد من المبادرات السابقة قد أطلقت لحماية الزي الشعبي لكنها لم تحظَ بالمشاركة والتفاعل الكبير خلال العام 2019، وهذا يدلل على أن هذا الشعب واع ومدرك جيداً حجم المخاطر التي تحيط بقضيته، لذلك يقاوم وسيبقى يقاوم بكل شكل وطريقة”.
وشدد فرج الله على أن التراث الفلسطيني متمثلاً بالزي والأكل والمكان والهوية والمقدسات وغيرها سيبقى عنواناً للهوية الفلسطينية تقاوم الاندثار وتواجه الاحتلال، واليوم “نحن نجحنا بمبادرة الزي الشعبي، والفترة المقبلة سيكون لنا عنوان مقاومة جديداً نحمي به الهوية ونحافظ عليها عبر توالي الأجيال”.
وخلال الأيام الماضية شوهدت تحركات ملحوظة في شوارع قطاع غزة والضفة لعشرات المواطنين بأعمار وأجناس مختلفة يلبسون الثوب والقمباز، والأمر لم يقتصر علىالوجود بهذا اللباس في الشوارع والمفترقات العامة، بل قرر البعض أن يشرك احتفاله بالدبكة والأغاني الشعبية القديمة، وكان كذلك لمواقع التواصل الاجتماعي نصيب حين اكتظت بصور اللباس التقليدي احتفالاً بهذه المناسبة.
رسالة تحدٍ وصمود
عضوة الهيئة الإدارية في جمعية “الزي الفلسطيني”، من قطاع غزة، نرمين مسعوده، رأت أن ما جرى خلال الأيام الخمس الماضية ضمن فعاليات “الزي الفلسطيني”، يعد سابقة تاريخية في حجم التفاعل والمشاركة وتحدي الاحتلال بالتمسك بالهوية والتراث والتاريخ الفلسطيني.
وفي تصريحات خاصة لـ”الخليج أونلاين”، تؤكد أن القائمين على هذه المبادرة حققوا الهدف المطلوب وأرسلوا رسالتهم بشكل واضح وصريح، والصور ولقطات الفيديو التي نشرت لمئات المواطنين في المدن والقرى والشوارع يرتدون الزي ويتباهون به، تؤكد أن هذا الشعب لن يتنازل عن تراثه مهما حاول الاحتلال سرقته وتزييفه.
وتشير مسعوده إلى أن رؤية أطفال غزة والضفة يرتدون هذا الزي تؤكد للاحتلال وغيره أن هذا التراث سيبقى يتوارث من جيل لجيل ولن ينسى أي فلسطيني ذلك، مؤكدةً أن المبادرة السابقة التي حملت عنوان “البس زيك مين زيك” كانت مفتاحاً لهذا النجاح الحاصل الآن.
وشددت على أن التراث والهوية الفلسطينية “فخر ووسام شرف نعتز به مهما حيينا، وهدفنا الرئيسي من تلك المبادرات نقل هذا الشرف للأجيال الأخرى، لنكون جيل تحدٍ يصارع المحتل في الدفاع عن أرضه وتراثه ومقدساته”.
وذكرت أن تداول الثوب على مر الأجيال “يعد نجاحاً ضد جميع الضغوط التي تعرضت لها الثقافة الفلسطينية وسعت للحد من وجودها وتوسعها، فهو أفضل الشواهد على عادات وتقاليد المدن والبلدات المهجرة التي فقدت حقها بالوجود بسبب استبداد سياسات دولة الاحتلال”.
تاريخ الثوب الفلسطيني
ويعتقد المؤرخون أن الثوب الفلسطيني يعود للعهد الكنعاني أي قبل 3000 سنة، فلقد وجدت بعض الصور والرسومات التي طرزت بها ملابس ملكات الكنعانيين على نفس أشكال التطريز الموجودة حاليّاً، إضافة إلى الاستخدام المشترك لخيوط الحرير، وذلك وفقاً لكتاب “ملكات الحرير”.
ويمكن ملاحظة تأثير الحضارة الكنعانية على هذا الزي من خلال رسومات الثعابين والشجر التي كانت جزءاً منها، كما غلب على الثوب اللون الأحمر فكنعان يعني أرجوان، وتختلف درجاته من مكان لآخر، فثوب غزة يميل إلى البنفسجي، أما الخليل فإلى البني، وبيت لحم ورام الله ويافا يميل إلى اللون الأحمر القاني أو الخمري وبئر السبع الأحمر المائل إلى البرتقالي، ومع دخول الحضارة الإسلامية أضيف البرقع (غطاء الوجه) وغطاء الرأس للباس الفلسطيني.
وتترواح أسعار الثوب الفلسطيني بين 400 دولار و1500 دولار، في حين يبلغ سعر الثوب المصمم تقنياً (بشكل المطرزات دون تطريز) نحو 65 دولاراً، ويبلغ ثمن الزي الفلسطيني للرجل نحو 100 دولار.
والجدير ذكره أن “إسرائيل” تفتقد إلى تاريخ يربطها بالأرض، لذلك سعت إلى سرقة الثوب الفلسطيني وزخارفه لتوهم العالم بأن هذا الزي هو تراكم وحصيلة تاريخها وماضيها، إذ عمدت إلى تسجيل الثوب الفلسطيني باسمها في المجلد الرابع من الموسوعة العالمية عام 1993.
كما تتعمد الشخصيات الإسرائيلية البارزة الظهور باللباس الفلسطيني في المحافل الدولية ليمنحوا صورتهم العامة عمقاً تاريخياً وطابعاً وطنياً، كما فعلت وزيرة الثقافة الإسرائيلية ميري ريغيف في مهرجان كان السينمائي، ومن قبلها زوجة الوزير الأسبق موشيه دايان التي كانت تزور دول العالم وهي مرتدية الزي الفلسطيني.
ومؤخراً انتشرت أخبار عن ارتداء مضيفات شركة طيران “العال” الإسرائيلية الثوب الفلسطيني، الأمر الذي زاد من الفعاليات المشجعة للتراث الفلسطيني، مثل تنظيم معارض وعروض أزياء وافتتاح دورات تدريبية لتعليم التطريز.