وأطلق الجيش الإسرائيلي النار على الصحافية الفلسطينية-الأمريكية المخضرمة شيرين أبو عاقلة، فأرداها قتيلة في 11 ماي 2022، وذلك أثناء تغطيتها غارة عسكرية على مخيم للاجئين خارج مدينة جنين بالضفة الغربية.
وبعدما دحضت منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية “بتسيلم” مزاعم رئيس الوزراء الاسرائيلي نفتالي بينيت، بأن رصاصة طائشة أطلقها فلسطينيون أصابت شيرين، دعت الحكومة الإسرائيلية إلى تحقيق مشترك في مقتل الصحافية مع السلطة الفلسطينية، وطالبت بالرصاصة وجثة شيرين لإجراء تشريح للجثة. ورفضت السلطة الفلسطينية هذا الطلب، نظراً إلى الافتقار التاريخي للشفافية والمساءلة في التحقيقات في جرائم قتل المدنيين والاحتلال غير القانوني للأراضي الفلسطينية على يد الجيش الإسرائيلي. وفضّلت السلطة الفلسطينية إجراء تحقيق مستقل عوضاً عن ذلك.
واشنطن ترفض إجراء تحقيق مستقل
ورغم أن تحقيق السلطة الفلسطينية خلص إلى أن الرصاصة تطابقت مع سلاح يستخدمه الجيش الإسرائيلي من نوع “روجر ميني 14″، إلا أن وزارة الخارجية الأمريكية أوضحت أنها ستعتمد على نتائج التحقيق الإسرائيلي الذي لم يحرز أي تقدّم في القضية.
وقال ملحس: “يبدو أن التزام الحكومة الأمريكية الشكلي بحرية التعبير، أقل أهمية من استرضاء حلفائها، بدءاً من الحكومات الأجنبية وانتهاءً بالشركات المتعددة الجنسيات”.
وعلى الرغم من أن عدداً قليلاً من أعضاء الكونغرس، كتبوا خطاباً يطلب من إدارة الرئيس جو بايدن إجراء تحقيق مستقل في مقتل الصحافية الفلسطينية الأمريكية، وعلى الرغم من القتل خارج نطاق القضاء لمواطنة أمريكية وصحافية من جانب حكومة أجنبية، رفضت إدارة بايدن إجراء تحقيق مستقل خاص بها. وبدلاً من ذلك، ينوي وزير الخارجية أنتوني بلينكن الاعتماد على نتائج التحقيق الإسرائيلي، الذي يرفض متابعة التحقيق دون الحصول على جثمان شيرين.
تجارب سابقة
وأوضح الكاتب أنها ليست المرة الأولى التي ترفض فيها الحكومة الفيدرالية الأمريكية التحقيق في وفاة مواطن أمريكي على يد الجيش الإسرائيلي. ففي عام 2003، تُرك مقتل الناشطة راشيل كوري في غزة للمداولة أمام المحاكم الإسرائيلية.
دعم أميركي عسكري ومالي للجيش الاسرائيلي
وبينما يتلقّى الجيش الإسرائيلي 3.8 مليارات دولار من الأموال العامة الأمريكية سنوياً في شكل مساعدات عسكرية، رأى ملحس أن المطالبة بإجراء تحقيق بقيادة الولايات المتحدة في مقتل شيرين تفتح السُبل القانونية أمام الناشطين والسياسيين الفلسطينيين والأمريكيين على حد سواء لتحدي هذا الدعم المالي المستمر للجيش الإسرائيلي.
وأكد ملحس أن الولايات المتحدة لديها بالتأكيد سلطة إجراء مثل هذه التحقيقات، من خلال البند الثاني من المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي صدّقت عليه كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، والذي ينصّ على حرية “التماس المعلومات والأفكار أياً كان نوعها وتلقيها ونقلها، بصرف النظر عن الحدود، سواء كان ذلك شفهياً أو كتابياً أو مطبوعاً، وفي شكل فني أو من خلال أي وسائل أخرى مختارة”.
ورأى أنه إذا كشف التحقيق عن جرائم حرب، فإن “الدعم المالي للولايات المتحدة للجيش الإسرائيلي سيخضع للتدقيق التلقائي”، إذ ينص قانون ليهي على أنه يُحظر على الحكومة الفيدرالية الأمريكية تقديم “المساعدة إلى أي وحدة من وحدات قوات الأمن في بلد أجنبي إذا كان لدى وزير الخارجية معلومات موثوقة تفيد بأن هذه الوحدة ارتكبت انتهاكاً جسيماً لحقوق الإنسان”.
ويُعتبر التحقيق، الذي تقوده الولايات المتحدة، أمراً بالغ الأهمية، ليس فقط لتحقيق المساءلة عن قتل الجيش الإسرائيلي لشيرين أبو عاقلة وستة وثمانين صحافياً آخرين كانوا يعملون من الأراضي الفلسطينية منذ عام 1967، ولكن ايضاً لتحدي الاحتلال الإسرائيلي غير القانوني للأراضي الفلسطينية الذي يموّله دافعو الضرائب الأمريكيون. وهذا هو بالضبط سبب عدم اهتمام وزارة الخارجية بمتابعة التحقيق.
وأوضح ملحس أن عدم اهتمام الولايات المتحدة بالمساءلة عن مقتل شيرين ليس بالأمر المفاجئ، وذلك في ضوء التاريخ الطويل للولايات المتحدة في توفير الحصانة الدبلوماسية لإسرائيل، بعد أن استخدمت حق النقض ضد 53 قراراً على الأقل من قرارات مجلس الأمن الدولي التي كانت تنتقد إسرائيل في العقود الخمسة الماضية.
التوجّه الاقتصادي النيوليبرالي
ومع ذلك، وبعيداً عن الأسباب الجيوسياسية للولايات المتحدة في منح إسرائيل تاريخياً الإفلات من العقاب وتوفير تغطية جيدة لها، فإن أحد الجوانب المسكوت عنها لانتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة هو المصلحة الراسخة للمجمع العسكري الصناعي الأمريكي في تسليح الجيش الإسرائيلي.
وأوضح ملحس أن بندقية القنص “روجر ميني-14” التي استُخدمت لقتل شيرين، تصنّعها وتبيعها شركة تصنيع الأسلحة الأمريكية “ستارم روجر آند كو” (Sturm, Ruger & Co.)، التي لديها وكالة توزيع في إسرائيل وتُروّج لأسلحتها النارية من خلال تسليط الضوء على استخدام الجيش الإسرائيلي لها.
وتأتي 92% من واردات اسرائيل من الأسلحة من الولايات المتحدة. وتدعم المساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل على نحو فعّال المشتريات من مصنعي الأسلحة الأمريكيين ومقاولي الدفاع.
ويمتد التوجه الاقتصادي النيوليبرالي الذي يكلّف الحكومة بتعزيز مصالح شركات القطاع الخاص وأرباحها قبل كل شيء، إلى السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
المجمع الصناعي العسكري الأمريكي
وذكر موقع “أوبن سيكرتس”، وجّه مقاولو الدفاع الأمريكيون ومصنّعو الأسلحة بين عامي 2001 و2021 نحو “285 مليون دولار في إسهامات الحملات الانتخابية و2.5 مليار دولار في الإنفاق على جماعات الضغط للتأثير في سياسة الدفاع”. وتشمل هذه الشركات “لوكهيد مارتن”، و”بوينغ”، و”نورثروب غرومان”، و”رايثيون تكنولوجيز”، و”جنرال ديناميكس”.
ومن بين أبرز جماعات الضغط لمبيعات الأسلحة المحلية والأجنبية: “الرابطة الوطنية للبنادق” السيئة السمعة، و”المؤسسة الوطنية لرياضات الرماية” الأقل شهرة، والتي أنفقت 1.2 ملايين دولار في الإنفاق على جماعات الضغط في عام 2021. وكان رئيس المؤسسة الوطنية لرياضات الرماية، ستيف سانيتي، رئيساً تنفيذياً ورئيساً لشركة “ستارم روجر آند كو”، وهي الشركة المصنّعة للسلاح الذي قُتلت به شيرين أبو عاقلة.
تقاعس أمريكي
وأكد الكاتب أنه في قضية شيرين أبو عاقلة، تتبنّى الولايات المتحدة نهج التقاعس عن اتخاذ إجراء جزئياً على الأقل، لمصلحة مصنّعي الأسلحة والمجمع الصناعي العسكري الأوسع، مضيفاً أن قضية شيرين كشفت عن البراغماتية المحسوبة المجرّدة من المشاعر الإنسانية والتي تُقنع بها الشركاتُ المتعددة الجنسيات، الحكومةَ الأمريكية بمشروعها للحفاظ على الهيمنة الاقتصادية العالمية.
وختم ملحس أن شيرين قُتلت، وبسبب رفض الولايات المتحدة فتح تحقيق مستقل، فمن غير المرجح أن تنصفها العدالة.