الجبهات الثلاث في مواجهة الإرهاب

الجريدة نت26 نوفمبر 2017
الجبهات الثلاث في مواجهة الإرهاب

الجريمة المروعة التي ارتكبتها يد الغدر الإرهابي في مسجد الروضة ببئر العبد أحيت الحديث من جديد عن مواجهة الإرهاب ، وضرورات مراجعة الأداء الرسمي في تلك المواجهة المصيرية ، لأننا إذا استبعدنا الخطب والتهديدات وكلام الإنشا الذي يردده المسئولون الكبار والصغار وإعلامهم بعد كل فاجعة ، فلن تجد ـ في الواقع ـ إلا أخطاء فادحة وتوسعا في نشاط الإرهاب وزيادة الوحشية والجرأة ، على العسكريين والمدنيين على حد سواء ، وهو ما يستدعي مراجعة وطنية ضرورية ، وتقديم النصيحة للوطن ولأصحاب القرار .
في المواجهة مع الإرهاب هناك ثلاث جبهات مفتوحة للصراع ، وليست جبهة واحدة ، وإهمال أي جبهة من الجبهات الثلاث سيتسبب في وجود “ثقب” أو ثغرة في جدار المواجهة تخدم الإرهاب وتضعف من حصاره وخنقه ، والجبهات الثلاث هي : جبهة المواجهة العسكرية والأمنية لأن الرصاص لا يقابل إلا بالرصاص ، وهو ما يشتمل أيضا على الخدمات المعلوماتية الدقيقة ورصد التحركات المشبوهة ، والجبهة الثانية هي الجبهة الفكرية ، لأن المواجهة مع الإرهاب ذات طبيعة خاصة ، فنحن لا نواجه عصابات لتجار المخدرات أو تجار السلاح مثلا ، القصة معهم هي بيزنس أو مكاسب مالية بحتة ، وإنما نتعامل مع “عقول” تم حشوها بأفكار خطيرة يمكن أن تصل بأحدهم إلى أن يفجر نفسه في موقع أو جمع من الناس وهو متصور أنه ينال بذلك الشهادة ويدخل الجنة ، تفكيك هذا الخطاب هو جهد له أولوية كبيرة في تلك المواجهة ، والجبهة الثالثة هو الجبهة السياسية ، والتي تتمثل في نجاحك في حرمان المنظمات الإرهابية من الحاضنة الشعبية ، التي تتيح له التمدد والحماية والتكاثر أيضا ، وفي ذات الوقت قدرة الدولة على تعزيز الحاضنة الشعبية لها واصطفاف الجميع معها بيقين وثقة في تلك المواجهة .
جبهة المواجهة الأمنية والعسكرية قتلت كلاما وبحثا ، وهناك انتقادات قدمت لن نضيف إليها كثيرا لأنها مكررة ، والمؤكد أن هذه الملاحظات أخذت بالاعتبار من القيادات الأمنية والعسكرية ، رغم ضيق بعضهم من النقد ، إلا أنه كثيرا ما يكون كاشفا لأخطاء أو ثغرات أو تقصير يساعد أصحاب القرار الأمني والعسكري على إصلاحه وتفاديه ، المشكلة الحقيقية الآن أن لدينا قصورا شديدا في الجبهتين : الفكرية والسياسية .
في الجبهة الفكرية تقع السلطة في أخطاء يصعب تصور الوقوع فيها بأي معيار عقلي أو منطقي ، ففي الوقت الذي كان الأزهر يقوم فيه بجهده في دحض أفكار الإرهاب ومرجعياته وتفنيد حججه ونشر الفكر الوسطي تقوم جهات رسمية بتحريض بعض الأقلام ونواب البرلمان لشن حملة مريرة لإهانة الأزهر وشيخه وإضعاف هيبته ، وهو ما يصب في النهاية في صالح قوى الإرهاب والظلام لأن أحد الجدران العالية التي تعوق حركتهم يتم هدمه أو إضعافه ، وهناك من يتصور أن قوة الدولة تعني سيطرتها على جميع المؤسسات ، وإدارتها من مركز واحد بطريقة الريموت كونترول ، وهذا في الحقيقة إضعاف للدولة نفسها ، بإضعاف مؤسساتها ، فقدرة الأزهر أو المؤسسة الدينية على أداء دوره تتصل جوهريا بشرط المصداقية والمصداقية تتصل جوهريا بشرط الاستقلال ، وعندما تفكر في إضعاف هيبة واستقلالية ومصداقية مؤسستك الدينية الرسمية بمثل هذا الاستهتار والبجاحة ، فأنت تصطف ـ عمليا ـ مع الإرهابيين وتسهل عليهم أن يصوروا تلك المؤسسة بأنها مجرد “بوق” للسلطة ، والأزهر مؤسسة بشرية ، ولا كهنوت في الإسلام ، ومن حقنا أن نراجعها ونختلف أحيانا معها ، لكن هناك فارقا بين الاختلاف والإهانة ، المراجعة والتدمير ، الملاحظة النقدية والرغبة في إضعاف المصداقية .
أيضا ، وعلى سبيل المثال ، ضمن مجموعة الأحزاب التي تشكلت بعد ثورة يناير حزب “البناء والتنمية” المنحدر من الجماعة الإسلامية ، وهذا الحزب وكوادره ومؤسسوه هم أصحاب التجربة الأكثر أهمية في تاريخ مصر الحديث في مواجهة الفكر الديني المتطرف وتفكيك أفكار العنف ودحض الإرهاب ، ونجحوا في التسعينات في إنهاء ملف العنف الكئيب وساهموا بقوة في عودة الأمن والأمان والسلام إلى ربوع الوطن ، لدرجة أن بعض الدول العربية كانت تطلب من مصر نسخا من كتب هذه الجماعة لتوزيعها على الشباب لتحصينهم من العنف ، اليوم هناك جهود رسمية محمومة لغلق هذا الحزب وسحب ترخيصه وتشريد الآلاف من أعضائه ، هذا ـ في الحقيقة ـ ضرب من الجنون السياسي ، ومن الخدمات المجانية العظيمة التي تقدمها الدولة للإرهاب ومنظماته ، ويكفي أن يشير أحدهم إلى ما تفعله الدولة في الحزب الذي خدمها وطلق العنف بالثلاثة والتزم بالقانون والنشاط السلمي ، لكي يتخذوا من ذلك حجة وإغواء للشباب المتشدد لكي ينضم إليهم وتتكاثر خلايا الإرهاب ، هل يوجد عقل سياسي يمكن أن يفكر بتلك الطريقة ، الحزب الذي يمثل خط الدفاع الأول لك في تلك المواجهة تحيله لمحكمة الأحزاب لكي تغلقه وتشرد أعضائه ، هذا يعني ـ ببساطة ـ غياب العقل السياسي الرشيد عن إدارة المعركة .
الجبهة الثالثة في المواجهة ، الجبهة السياسية ، وهي أكثر الجبهات تعقيدا واحتياجا للجهد والذكاء والشجاعة السياسية ، لأن تمدد الإرهاب وتحركه وتكاثره يعتمد على قدرته على اختراق المجتمع والاستفادة من أخطاء الدولة وحالات الإحباط السياسي لتشكيل حاضنة شعبية ، يستمد منها كوادر جديدة ، وحماية ودعما ، وفي المقابل الدولة بحاجة إلى تعزيز حاضنتها الشعبية وهو ما نعرفه أحيانا بالاصطفاف الوطني ، وبقدر النجاح في تلك المعركة ، معركة الحواضن الشعبية ، بقدر ما تربح المعركة مع الإرهاب ، والحاضنة الشعبية للإرهاب تعيش على البؤس والمظالم والأخطاء التي ترتكبها الدولة ، وبالتالي كلما قلت الأخطاء كلما عجز الإرهابيون عن اكتساب حواضن شعبية ، وبالتالي فالبديهي أن أجواء الانفتاح السياسي واتساع نطاق الحريات العامة والمشاركة الشعبية وحيوية المؤسسات الديمقراطية وأولها البرلمان المنتخب بشفافية وقدرة الأحزاب على النضال السلمي والتحرك بين الجماهير وفاعلية منظمات المجتمع المدني ودعم الثقافة والمكتبات في القرى والنجوع والمدن بعيدا عن نخبوية العاصمة وسقف حرية التعبير العالي للصحف ووسائل الإعلام المختلفة وردع أي ممارسات أمنية مهينة لكرامة الناس ووقف اللجوء إلى المحاكمات ذات الطابع السياسي ومعالجة الانقسامات الوطنية الحادة والحرص على العدالة الاجتماعية وفتح آفاق النشاط الاقتصادي وتأمينه ودعمه ، كل ذلك يمثل الهواء الصحي الذي يظلل البلاد ويكون له مفعول السحر في تجفيف “المستنقعات” الظلامية التي يتكاثر فيها الإرهاب ويستغلها لنشر أفكاره وكسب متعاطفين ، لأن الشباب بمختلف مكوناتهم يجدون المتنفس لطاقاتهم وطموحهم وأحلامهم وغضبهم أحيانا وليسوا بحاجة إلى التورط في العنف أو الدم أو تفجير أنفسهم ، لا توجد قضية أساسا وقتها لكي يفجر نفسه من أجلها .
لذلك نقول ، ونؤكد ، على أن المواجهة هي مواجهة شاملة ، وأن الذكاء السياسي والخبرة السياسية وجرأة القيادة وانفتاحها وثقتها بنفسها وبشعبها ، هي الحاسمة في تلك المعركة ، أما تصور أن القبضة الحديدية أو الأدوات العسكرية والأمنية وحدها كافية للحسم ، فهذا وهم سيطيل المعركة ويطيل نزيف الوطن فيها .

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.