عرف التاريخ مراحل فاصلة فرضت تداعيات متوقّعة وأخرى غير متوقّعة، مثلما حصل في مراحل الأوبئة الفتاكة والحربين العالميتين، حيث قضى ملايين البشر، وعندما خرج من خرج منها سالماً وجد نفسه أمام واقع جديد بمعطيات وأخلاقيات جديدة فرضها الواقع باعتباره بناء تحتياً يفرز بالضرورة بناء فوقيا، جوهره أقيم والأخلاقيات وشكل العلاقات الاجتماعية والسياسية والطبقية.
في خضم جائحة كورونا الحالية والتي لم تنته بعد، تبرز تساؤلات وحالات جدل إزاء عالم ما بعد «كورونا» من زاوية أخلاقية. ولأن أبرز ما في هذه المرحلة هو التعامل مع المرضى في المستشفيات، بما فيها مراسم دفن الموتى التي تستدعي اعتماد «أخلاقيات مسؤولة» في ظل إنهاء العالم تدريجاً لأوسع عملية حجر منزلي في تاريخ البشرية، وفق ما أكدت عالمة الاجتماع الفرنسية إيفا إيلوز، وهي تراقب حالياً تقلبات العالم في عز أزمة «كورونا».
وترى إيلوز في حديث لوكالة فرانس برس من القدس المحتلة، وهي أحد مقرّي إقامتها مع باريس، أن هذه الأزمة تشكل «محطة فاصلة في طريقة موت الناس».
وتقول «المريض على سرير المستشفى منقطع عن عائلته ولا أحد يرافقه من أحبائه، لا اتصال بشرياً له في المعنى الكامل للكلمة لأن الأطباء والممرضين محميون بمعدات لا تتيح في كثير من الأحيان حتى رؤية عينيهم. كما لو أن المريض يخضع للعلاج على يد رواد فضاء».
قسم الإنعاش
المهمة اليومية لأطباء قسم الإنعاش، الاختيار بين المرضى: من سيتم وضعه على أجهزة التنفس الاصطناعي؟. الوباء الحالي سيرغمهم على القيام بعملية «فرز» للمرضى على نطاق واسع، ما يثير مسائل أخلاقية. ويحتاج المرضى بحال خطرة إلى إنعاش يثقل كاهل المستشفيات ويتسبب باكتظاظ فيها في بعض الدول. لكن في هذه الظروف، أي مريض يجب أن يستفيد من جهاز التنفس الاصطناعي؟
ويقول بيرتران غيديه رئيس قسم العناية الفائقة والإنعاش في مستشفى القديس أنطوان في باريس لموقع «صدى البلد» الإلكتروني «نحن لا ننطلق من الصفر، إنها قرارات نأخذها كل يوم». ويوضح أن من أجل اتخاذ هذا القرار، هناك ثلاثة معايير تقييمية تطبق أيضاً على المصابين بكورونا هي «رغبة المريض وحالته الصحية العامة وخطورة مرضه».
في ما يخص رغبة المريض، فإن الأطباء يدعون العائلات إلى مناقشة الأمر مسبقاً، لأن الإنعاش «ثقيل جداً». ويشرح «ستجدون أنفسكم على مدى ثلاثة أسابيع مع آلة تتنفس عنكم ونائمون فيما يتم شل حركتهم عبر أدوية مخدرة».
لوائح انتظار
هذه المبادئ نفسها تطبق على لوائح الانتظار من أجل زرع الأعضاء، وفق ما أكد أرتور كابلان من كلية غروسمان للطب في جامعة نيويورك.
ويقول الخبير في أخلاقيات البيولوجيا لوكالة فرانس برس «هناك ناس يموتون كل يوم منذ عقود لأنه ليس بالإمكان زرع أعضاء لهم». ويتابع «ليس لدينا ما يكفي من الأعضاء (…) النظام يقضي بأن نعطي (العضو) إلى الشخص الذي لديه فرصة أكبر للنجاة». لكن بالنسبة للمصابين بكورونا وعلى الرغم من القواعد والتوصيات، فإن في نهاية المطاف طبيب الإنعاش المسؤول هو الذي سيتخذ القرار، أحياناً خلال الليل أو بشكل طارئ، بمفرده أو مع فريق، وفق كابلان.
قوة زجرية
كذلك ثمة تغيير سريع آخر يتمثل في العلاقة مع الدولة. وتوضّح إيلوز «شخصياً لم أشعر يوماً بمثل هذا الضغط القوي عليّ. لم أر مثل هذه القوة الزجرية قبلاً لدى الدولة… لقد انتقلنا بين ليلة وضحاها من دولة كانت تقول لنا إن كل شيء يعتمد على مواهبنا ومبادراتنا وقدرتنا على التحمل، إلى دولة تعطي أولوية مطلقة للإرادة الفردية وتنسق كل خطوات الأفراد».
وتضيف «من الواضح أيضاً أن الدولة هي التي ستنقذ مجدداً الرأسمالية من ذاتها كما فعلت مراراً في السابق، في 1929 أو 2008. متى سنفهم أن السوق لا يمكنها أن تنسق أي أزمة ولا تستطيع إدارة الأزمات الاجتماعية، وبأنه في الواقع مصدر انقسامات اجتماعية كبرى؟».
وضع متفجر
في الولايات المتحدة حيث تنكّر الرئيس دونالد ترامب لخطورة الوباء في بادئ الأمر، تظاهر مواطنون ضد تدابير الحجر المنزلي لاعتبارهم أنها مساس بالحريات الفردية. وتلفت إيلوز إلى أن «الأمر قد يتخطى قدرة الناس على التحمل في حال حرمانهم حريتهم ومداخيلهم». لكن متى تنتهي مرحلة الحجر المنزلي وكيف ولماذا؟ هنا أيضاً يصطدم المنطق الاقتصادي بتحديات الصحة العامة والمسؤولية الفردية.
وتقول «خلال فترة الحجر، تتحمل الدولة المسؤولية عن كل شيء تقريباً لكن عندما ينتهي ذلك، يتعين على الأفراد تحمل مسؤوليتهم تجاه أنفسهم والآخرين. سنحتاج حقاً إلى أخلاقيات مسؤولة جديدة». وتضيف «سيتعين علينا تقويم الأخطار وانتهاج مبدأ الشفافية (…) المسؤولية المطلوبة في الأزمة الراهنة تقتضي بأن يرى كل شخص في نفسه خطراً على الآخرين. هذا عكس الفئات الأخلاقيات التقليدية».
وقد تكون تدابير التباعد الاجتماعي أسهل نظرياً على الموظفين العاملين من المنزل أو الأشخاص الميسورين. لكن مع الإنهاء التدريجي لتدابير الحجر، ثمة خطر «تعريض السكان خصوصاً الطبقات الاجتماعية الأكثر فقراً، لمعضلات مستعصية إذ سيُخيَّرون بين الحفاظ على صحتهم أو على بقائهم الاقتصادي».
وهذا الأمر قد يؤدي وفق إيلوز إلى «خطر عدم مساواة ليس فقط في مواجهة الثروة بل أيضاً تجاه الحياة والموت وهذا ما لا يمكن السماح به».