كلام الناس

الجريدة نت13 يونيو 2018
كلام الناس

لم أفهم يوماً هوس العرب بـ “كلام الناس”، ولم أكترث إن كان “بيقدم وبيأخر”، حتى وصل إلى “بي بي سي” نبأ إساءة الثنائي حسن البلام وعبدالناصر درويش إلى الشعب السوداني في مسلسل “بلوك غشمرة”، وأصبحت مسلسلاتنا “حجوة” في حلوق الناس.

ومن المهم هنا أن نسمع ماذا يقولون عنا. بل وأن نسمعه جيداً، وإلا لما استوعبنا الدرس.

لم يخلُ فضاؤنا يوماً من منتقدي العنصرية في الأفلام والمسلسلات والمسرحيات، ولكن كانت تُقطع ألسنتهم بالديباجة المعتادة بأننا جميعاً عرب ومسلمون وأخوة. ولست أنسى كل الردود التي طالبتني شخصياً بالتوقف عن اللطم حين كتبت مقالاً ضد سخرية رامز جلال من الشعب الصومالي، فالكوميديا تستحل كل شيء.. إلا ما نجبن عنه، طبعاً.

ويبدو أننا خدّرنا أنفسنا بأنفسنا لكثرة ترديدنا لهذه الاسطوانات، فلم تسعفنا يقظتنا لنفهم ما نحن بصدد ارتكابه حين أخرجنا عدة المكياج مرةً أخرى.

الـ “blackface” كانت ظاهرة سائدة في الغرب خلال القرنين الـ19 والـ20، وهي تعني صبغ الوجه باللون الأسود لتقمص الشخصيات السوداء بشكل ساخر ومستهزئ يجردها من إنسانيتها، ويستسخف بمعاناتها، ويعزز الصور النمطية المهينة عنها. كما أنها ظاهرة كانت تُقصي الممثل الأسود كيلا تسمح لنا برؤية السود كبشر طبيعيين، فيبقوا كاريكاتيرات جديرة بالضحك.

قد يكون المدافعون عن البلام ودرويش على حق، وهم الذين يتحججون –دون أن يقدموا أدلة مقنعة- بأنه حتى منذ لطّخ عبدالحسين عبدالرضا وجهه ليلعب دور عنترة بن شداد في “أوبريت بساط الفقر”، فصبغ الوجوه لم يحمل لدينا نفس أبعاد ظاهرة الـ”blackface” الغربية.

حسنا. سنسلّم جدلاً –وأيضاً، دون أدلة لأنهم لم يوفروها- بأنهم محقون، وبأن صبغ الوجوه عندنا لم يكن سوى سخرية فظة وغير محببة.

ولكن العالم المندهش من حولنا بات يتساءل إلى أي مدى نفتقد إلى الصوابية السياسية والحصافة والوعي حتى نتشبث بهذه الحماقة، وفي خضم القرن الـ21 الذي يشهد انفتاحاً غير مسبوق.

فحتى وإن لم يكن صبغ الوجوه يقترن لدينا بكل تلك المفاهيم الخبيثة للـ”blackface”، فهم مصعوقون من المدى الذي غابت عنا فيه الحكمة لنعتقد أن بعض الضحكات الرخيصة تعتبر ثمناً معقولاً للتخلف!

كنت طفلة في الصف السادس عندما انضمت إلينا طالبة عربية سوداء البشرة كانت قد ترعرعت في بريطانيا. ولكم أن تتخيلوا مدى استغرابنا من ردة فعلها حين مازحتها إحدانا بكلمة “مونكي”.

علت أصواتنا واضطربنا إذ رحنا نشرح لها، “إنها تلقبّنا جميعاً بالقردة. إنها مزحتها المفضلة. كيف تتهميننا بالعنصرية؟”.

وعلى الرغم من أننا كنا صغاراً، فحين أخبرتنا بأن هذه الكلمة تُستخدم خصيصا لإهانة السود في ذلك الغرب البعيد الذي أتت منه، وبأنها تعتبر جارحة في عرفها، فقد طلّقنا “مونكي” ثلاثاً، ولم نواصل التذرع بحسن النوايا، وبحقيقة أن المفردة كانت تمثّل لنا معنى مختلفا.

فأين فنانينا من حكمة الأطفال؟.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.