تحول البحر المتوسط إلى مقبرة للتوابيت العائمة التي تحمل الحالمين بالهجرة من الجنوب إلى الشمال الأوروبي بحثا عن فرصة عمل أو رغبة في نمط عيش مختلف.
والأخبار التي تتداولها وسائل الإعلام في العواصم المغاربية حول التوابيت العائمة لا تحمل في تفاصيلها بشرا، فسواء في ليبيا أو تونس أو الجزائر ومثلهم المغرب وموريتانيا، لا يكاد يمر يوم دون أن تلتحف الصحف اليومية بسواد الموت وهي توغل في وصف تفاصيل الرحلات القاتلة التي يشبه بعضها روايات الأفلام السينمائية. وفي الثنايا قصص شباب من المغرب العربي ومن إفريقيا باعوا متاع دنياهم القليل ودفعوه ثمنا للمهربين وناقلي الموت للوصول بهم إلى الضفة الأخرى من المتوسط حيث جنة هؤلاء الشباب الموعودة.
مأساة بألوان الطيف تتكرر على الشواطئ المغاربية الممتدة على طول الشريط الجنوبي للمتوسط والساحل الشرقي للأطلسي، فلا عداد الموت توقف عند حد ولا عصابات التهريب إكتفت بما نهبته من أموال الفقراء ولا البحر كان متسامحا مع الفارين من جحيم الفقر.
فيما تتباهى الضفة الأخرى بما اتخذته من إجراءات للحد من وصول الجائعين إلى أراضيها وما قدمته من مساعدات عسكرية لدول الجنوب، في معادلة مقلوبة الموازين تراعي أمن أوروبا ومصالحها على حساب جنوب يتضوع جوعا.
فيما لا تلوح في الأفق علامات انفراج للمعضلة في ضوء أوضاع اقتصادية تتأزم يوما بعد آخر، فالجهود الحالية لمواجهة المشكل تخرج عن النواحي الأمنية في المعالجة وهي في المحصلة نتاج أسباب يعلمها الجميع.
قوارب الموت ما هي إلا الجزء الطافي من جبل الجليد فمن يكتب لهم النجاة يضطرون للعمل في الدول المستقبلة في أوضاع إنسانية مهينة والإنخراط في الأنشطة الإجرامية من فئة تجارة المخدرات والدعارة مقابل مبالغ ضئيلة يحولها المهاجرون إلى مواطنهم.
دائرة مفرغة تدور ضمنها الأطراف المعنية بقضية مشابكة أضلاعها يلتبس فيها السياسي بالإنساني بالإقتصادي ولا يمكن فيها توجيه اللوم لطرف بعينه فحال المهاجرين كالمستجير من الرمضاء بالنار.
وتشير الإحصائيات الرسمية إلى أن أكثر من 100 ألف مهاجر غير شرعي يحاول الوصول إلى إيطاليا لوحدها سنويا وهو رقم قد يتطابق مع حجم التوابيت العائمة التي تعود إلى السواحل المغاربية.
لكن الواقع أن أعداد المشاركين في هذه الرحلات اكبر بكثير إذا ما احتسب عدد المفقودين والغرقى وعدد من نجحوا في الوصول لأوروبا، ففي تونس لا تخلو الصحف المحلية يوميا من أنباء العثور على جثث مجهولة بعضها لتونسيين ومغاربة .
وجنسيات إفريقية لفظها البحر على الشواطئ التونسية مخلفة الأسى واللوعة في قرى تونسية بأكملها رغم تشديد الإجراءات الأمنية في تونس للحد من تدفق المهاجرين على اوروبا. من بينها عقوبات صارمة قد تصل إلى السجن 20 عاما وغرامات مالية مرتفعة على من تثبت مشاركته في مثل هذه العمليات.
ورغم الجهود الدبلوماسية التي تبذلها تونس مع إيطاليا خاصة البلد المجاور للسواحل التونسية وحلم الكثير من الشبان من بينها توقيع اتفاقية لإرسال أكثر من ثلاثة آلاف مهاجر تونسي سنويا بعد إلحاقهم بدورات تدريبية على المهن التي سيعملون فيها بايطاليا.
ورغم ذلك فإن حلم الهجرة والخروج من الواقع الأليم الذي يعيشه الشباب في تونس لم يمنع العشرات من الدخول في مغامرة النجاة إلى الضفة الأخرى أو الموت في عرض المتوسط حيث يدفع الشاب التونسي مبالغ تتراوح بين 1000 و1500 دولار لمهربين يتولون العملية في زوارق صيد متهالكة وفي ظروف وحشية.
أرقام لها دلالات
يزيد عدد المهاجرين التونسيين في الخارج عن 800 ألف تونسي قرابة 60 في المئة منهم يعيشون في فرنسا. ويوفر هؤلاء المهاجرون تحويلات مهمة من العملة الصعبة لبلادهم تتجاوز خمسة بالمئة من الناتج المحلي الاجمالي.
وتشير إحصائيات رسمية مغربية لعام 2004 أن عدد المغاربة المقيمين بالخارج بلغ حوالي ثلاثة ملايين، منهم مليون و113 ألفا و167 في فرنسا و423 ألفا و933 في إسبانيا و298 ألفا و949 في إيطاليا وثلاثمائة ألف و332 في هولندا.
ورغم توفر إحصاءات دقيقة حول المهاجرين الجزائريين في أوروبا فإن أرقاما تشير إلى تجاوزهم لرقم المليونين في فرنسا وحدها إضافة لنحو مليون ونصف أخرين موزعين على الدول الأوروبية وبالإجمال لا تكاد توجد عائلة في كل من تونس والجزائر والمغرب إلا ويوجد منها شخص واحد على الأقل في الخارج.
الهروب إلى ضفاف الموت باهظ التكلفة
موسم الهجرة السرية إلى أوروبا عبر قوارب الموت انطلق مبكرا هذه السنة ومعه حزمة من الإجراءات والقوانين التي تعكس عجز الحكومات المرسلة والمستقبلة لهذه الأنواع من الهجرات التي يلتبس فيها القانوني بالإنساني والتنموي بالسياسي.
ففي موريتانيا شهد الأسبوع الماضي إجتماع 10 وزراء داخلية يمثلون حكومات من المغرب العربي وأوروبا التوسطية لبحث هذا الخطر الذي بات يهدد المنظومة الأمنية في أوروبا والمغرب العربي التي يبلغ عدد سكانها مجتمعة 257 مليون نسمة، وحدودها الجنوبية المحاذية للقارة الافريقية تمتد على مسافة 6600 كيلومتر.
ولها واجهة بحرية مساحتها 7700 كيلومتر و20 ميناء على حوض المتوسط. وهي جغرافيا معقدة لم تحل فيها الإجراءات التي تتخذها الأجهزة الأمنية دون تسرب الآلاف سنويا، ويعكس الجدل الدائر بين كل من الحكومة الإيطالية وإسبانيا مدى التهديد التي باتت تشكله الهجرة السرية والتعقيدات السياسية التي تمر بها مراحل معالجة هذه الظاهرة.
وبرزت خلافات حادة وصفتها صحيفة “أوكي دياريو” الإسبانية بأنها الأسوء طيلة العشر سنوات الأخيرة، إذ اعتبرت أن الأعداد الهائلة من قوارب المهاجرين التي تصل إلى الضفة الإسبانية هي بمثابة دليل على الغضب المغربي .
وأمام انسداد الأفق وانعدام تنمية متوازنة في هذه البلدان توفر الحياة الكريمة لمتساكنيها تحول هذا النشاط إلى إقطاع إجرامي كبير ينشط فيه السماسرة على نطاق واسع خاصة في المدن الساحلية حيث بات من اليسير العثور على سماسرة يجوبون المقاهي المزدحمة بالمدن والقرى المغاربية ويعرضون خدمات التوصيل إلى المجهول بأثمان خيالية.
فالهجرة السرية تحولت إلى مجال له من الفنون والتقاليد وأسعار ايضا ففي المغرب يتراوح ثمن الهجرة السرية عبر قارب من قوارب الموت ما بين 20 ألف درهم إلى 50 ألف درهم حسب ضمانات النجاح (ما بين 1000 دولار و5000 دولار أميركي)، إلا أن الهجرة السرية في دول الضفة الجنوبية من البحر الأبيض المتوسط لا تنحصر فقط في قوارب الموت،
وإنما تتوزع على بدائل أخرى من قبيل عقود العمل المزورة والإعلانات الوهمية التي تقدم وعودا بالحياة الرغيدة والزواج الأبيض، كما برزت في السنوات الأخيرة وجهات جديدة باتت تستقطب المئات من الشباب المغاربي غالبيتهم من الفتيات.
بقي القول انه في الجزائر يطلقون عبارة «الحراقة» على المهاجرين السريين وفي المغرب «الحريك» وفي تونس «الحرقان».. وهي مسميات تحمل في طياتها معنى المغامرة وتحدي الواقع بممارسة فعل الحرق أي التخلص من كل ما يربطهم بأوضاعهم الإجتماعية وحتى أوراقهم الثبوتية.
وهو ما يضاعف من المشكلة فالآلاف من المفقودين ممن لم تبلغ أهاليهم أنباءهم منذ سنوات لا تتوفر عنهم أي معطيات بسبب انقطاع الإتصالات بينهم وبين عائلاتهم. فلا يعرف إن كانوا من الناجين على الضفة الأخرى أو ممن ابتلعتهم الأمواج في المتوسط أو على ساحل المحيط الأطلسي.