في تحليل عميق يقدمه المؤرخ المغربي جامع بيضا، أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة محمد الخامس بالرباط، يتم تسليط الضوء على المسيرة الحافلة للسلطان محمد بن يوسف، المعروف بمحمد الخامس. من تنصيبه على العرش عام 1927، مروراً بمحطات مفصلية كالنفي خارج الوطن، وصولاً إلى وفاته عام 1961، تكشف هذه المحاضرة جوانب خفية ومؤثرة في تاريخ المغرب الحديث.
محمد الخامس: صعود عرش المغرب وتحديات الحماية
يشير بيضا إلى أن محمد الخامس تولى السلطة وهو غير مستعد لها، لكنه سرعان ما أظهر مؤهلات سياسية استثنائية. استوعب السلطان الشاب في فترة وجيزة تطورات الحماية الفرنسية وظروف نشأة الحركة الوطنية، ما مكنه من بناء علاقات معقدة مع سلطات الحماية. ورغم محاولات المقيم العام الفرنسي الجنرال نوغيس لإقامة علاقات “مهذبة” مع القصر، إلا أن محمد الخامس أبان عن استقلالية مبكرة.
من بين القرارات الهامة التي اتخذها، نداء السلطان للشعب المغربي للوقوف بحزم مع فرنسا ضد دول المحور، وهو ما حشد عدداً كبيراً من المغاربة للانخراط في المجهود الحربي الفرنسي، حتى بعد هزيمة فرنسا أمام النازيين عام 1941، مما يعكس بعد نظره ومهارته السياسية.
مقاومة السلطان للحماية الفرنسية وقضية اليهود
لم يساير السلطان محمد بن يوسف مواقف الإقامة العامة الفرنسية في عدة مناسبات حاسمة. أبرزها رفضه القاطع لتطبيق القوانين العنصرية التي أصدرها نظام فيشي ضد اليهود المغاربة، مؤكداً عدم التفريق بين “الرعية”. هذا الموقف الشجاع يؤكد مبادئه الإنسانية والوطنية.
كما تميزت مسيرته بمحادثاته مع الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت على هامش مؤتمر الحلفاء بأنفا عام 1943، وهي خطوة لم تباركها الإقامة العامة الفرنسية، مما يبرز سعيه للحصول على دعم دولي للقضية المغربية. هذه الأحداث التاريخية شكلت منعطفات رئيسية في العلاقة بين القصر وسلطات الحماية.
المنفى: تعزيز الشرعية وتشويه السمعة
انتقل المحاضر بيضا للحديث عن مرحلة نفي السلطان محمد الخامس إلى جزيرة كورسيكا، ثم إلى مدغشقر بين عامي 1953 و1955، واصفاً ذلك بـ”الترحيل من المنفى القريب إلى المنفى السحيق”. لكن هذا النفي، بدلاً من أن يضعف مكانته، عزز من حضوره في قلوب المغاربة.
ويكشف بيضا أن سلطات الحماية حاولت “هدم الأسطورة اليوسفية” من خلال حملات إعلامية مكثفة لتشويه صورته، مثل اتهامه بموالاة الرايخ الثالث. وقد جرى تزوير وثائق ونشرها إعلامياً للترويج لهذه الاتهامات، بل ومطالبة بمحاكمة السلطان، في محاولة يائسة للنيل من شعبيته.
ديغول يدافع عن محمد الخامس وعودة البطل
لكن هذه الاتهامات لم تمر دون رد. فقد دافع الجنرال الفرنسي شارل ديغول عن السلطان محمد بن يوسف في 30 يونيو 1955، قائلاً: “دعوني أرفع كتفيّ استهزاء، فالسلطان قد رفض كل الالتباسات التي وُجّهت إليه… إنه رفيق التحرير!”. هذا التصريح شكل ضربة قوية لحملات التشويه.
كما نقل المؤرخ بيضا شهادة الملك الحسن الثاني (فيما بعد) حول هذه الاتهامات، حيث أكد أن الدليل قائمٌ على أن الوثائق التي نُشرت بعد الحرب عن الاتصالات المزعومة بين السلطان والطليان والألمان كانت مزوّرة من قبل أحد مكاتب الحماية. وفي نوفمبر 1955، عادت محمد بن يوسف إلى المملكة بعد رحلة المنفى، في استقبال حافل عكس مدى حب الشعب وولائه له، ليفتتح بذلك فصلاً جديداً في تاريخ المغرب المعاصر.
التعليقات (0)
اترك تعليقك