في السابع عشر من شهر نيسان/ أبريل 2017 أعلن ألف وخمسمائة أسير فلسطيني الإضراب عن الطعام، وأسموه إضراب “الحرية والكرامة”. وهو إضراب مفتوح لانضمام المئات والآلاف إليه من الأسرى في سجون العدو الصهيوني. الأمر الذي يعني أننا أمام معركة فلسطينية كبرى لا تهم الأسرى وحدهم فحسب وإنما هي أيضا معركة فلسطين كلها في هذه اللحظات التاريخية من المواجهة والمقاومة ضد المشروع الصهيوني الذي اقتلع القسم الأكبر من شعب فلسطين وأحلَّ مكانه في مدنه وقراه ملايين المستوطنين. وأقام دولة اغتصاب عسكرية لتواصل اقتلاع من بقوا من الفلسطينيين بهدف تهويد فلسطين كلها من النهر إلى البحر.
فآلاف الأسرى الذين يقبعون في سجون هذا الكيان، ويقدَّر عددهم المتزايد كل يوم بحوالي ستة آلاف، وهؤلاء جزء من مئات الآلاف من المقاومين الفلسطينيين الذين أُسروا طوال عشرات السنين في مواجهة هذه الجريمة التي تلخص بإحلال ملايين المستوطنين مكان الشعب الفلسطيني في فلسطين بعد اقتلاعه منها.
لقد شهدت سجون الكيان الصهيوني ألوانا من التعذيب والتعسف والقتل البطيء والانتهاكات الصهيونية الفاضحة للقانون الدولي الخاص بالسجناء أو أسرى الحرب طوال وجود دولة الكيان الصهيوني. ولكن تلك السجون شهدت في الوقت نفسه آيات عظيمة من البطولة والصمود والعلو على العسف والجراح من قِبَل مئات الألوف من الأسرى الفلسطينيين والعرب الأبطال، كما هو الحال مع هذا الجيل الراهن من الأسرى الذين يقودون ملاحم الصمود والبطولة وهم يرفعون رايات المقاومة عاليا، كما الاستمساك بثوابت الحق الفلسطيني في كل فلسطين من النهر إلى البحر.
ومن هنا فإن المعركة التي يخوضها أولئك الأبطال من خلال هذا الإضراب تشكل جزءا من مسلسل تاريخي طويل من الإضرابات التي خاضها الأسرى منذ سبعين عاما، ولا سيما في الخمسين سنة الأخيرة. ولكنه إضراب يخاض اليوم في ظروف وموازين قوى مختلفة. ويحمل في طياته، إمكانات واحتمالات لانتصارات لم تتوفر لأي من الإضرابات السابقة من قبل. الأمر الذي يتطلب أن يُعامَل باعتباره معركة فلسطينية كبرى يتوجب الانتصار فيها من خلال ليّ ذراع حكومة نتنياهو ومن ورائها إدارة ترامب.
والانتصار هنا يجب أن يحقق أكثر من تلبية المطالب التي أُعلِنَ الإضراب من أجل تحقيقها سواء أكان من النواحي التي تتعلق بحقوق الأسرى التي يقررها القانون الدولي أم كان فيما يتعلق بمعاملتهم وشروط حياتهم وصحتهم وتغذيتهم، أم فيما يتعلق بوقف الحبس الانفرادي أو التضييق على فترات الفُسَح، أو إنزال العقوبات التعسفية، أو الإهمال في معالجة المرضى، أم فيما يتعلق بحقوق الأهل بالزيارة وكيفية إجرائها ومدّتها واستمراريتها بمواعيد متقاربة. علماً أن هذا الجانب الأخير يتسم بارتكاب جرائم بحق الأهل تصل حد التعذيب في الوصول للزيارة أو الموافقة عليها وفي أثنائها وما بعدها. ودعكَ من أشكال المعاملة المهينة.
إن الظروف وموازين القوى الراهنة تسمحان بخوض هذه المعركة ليس بعقلية إنقاذ ما يمكن إنقاذه، أو الوصول إلى تحقيق الحد الأدنى من المطالب، أو مجرد إعلاء صوت الاحتجاج على العُسف والمظالم والانتهاكات كما حدث في الكثير من الإضرابات السابقة. وذلك بالرغم مما كانت تَنتَزِع من مكاسب ولو جزئية.
إذا ما قُرِئَت الظروف وموازين القوى الراهنة قراءة مدققة متحررة من تجارب الماضي وظروفه وموازين قواه، فإن المعركة يمكن أن تخاض من جانب قادة الإضراب داخل السجون من جهة، ومن جانب الفصائل والحركات الشبابية الانتفاضية والمنظمات الشعبية في فلسطين وخارجها، بروحية أشد تصميماً على تحقيق المطالب بحدها الأعلى، بل بروحية التحوّل إلى انتفاضة شعبية شاملة في القدس والضفة الغربية لدحر الاحتلال وتفكيك الاستيطان وإطلاق الأسرى وفك الحصار عن قطاع غزة وبلا قيد أو شرط.
المطلوب من القراءة المشار إليها أن تلحظ الحقائق التالية:
أولا: على الرغم من العلاقة القوية المتوقعة، ولها مؤشرات أولية بين نتنياهو وترامب، فإن نتنياهو متخوّف مما قد تحمله جعبة ترامب من “صفقة تاريخية” لإنهاء الصراع الفلسطيني والعربي مع الكيان الصهيوني، وذلك لما قد تتضمنه من تنازل محدود من جانبه، إلى جانب كل المكاسب التي ستعود إليه ولكنه غير مقبول من قِبَل المشروع الصهيوني الذي يريد كل فلسطين من النهر إلى البحر وبلا نقصان أو “شوائب” أو أيّ التزام.
ثانيا: الوضع الصهيوني العام يعاني عزلة دولية ولا سيما من جانب الرأي العام العالمي، والأهم أزمته الداخلية المتمثلة بجيش مهزوم في أربع حروب ومنهك من انتفاضة شبابية استدامت ثمانية عشر شهرا وما زالت تتصاعد.
ثالثا: يأتي إضراب الأسرى وما قد يفتحه من معركة كبرى، وما قد يُولّده من ردود فعل شعبية ورأي عام عربي وإسلامي – عالمي ليربك توجهات إدارة ترامب الداعية إلى عقد مؤتمر عربي – فلسطيني – صهيوني – أميركي باتجاه تحقيق “الصفقة التاريخية” آنفة الذكر. الأمر الذي قد يفرض على نتنياهو الخضوع لتلبية مطالب الأسرى لكي يتم الخلاص من الإرباك الذي يوّلده وسيوّلده الإضراب على أكثر من مستوى فلسطيني – وعربي – وعالمي بما في ذلك اعتراض المخطط الذي يعمل له محمود عباس في تجويع قطاع غزة وحسم المعركة ضد أنفاق المقاومة وأسلحتها فيها.
طبعاً هذه النقاط الثلاث ليست كل ما يمكن أن يُقال في اعتبار الظروف وموازين القوى في مصلحة الإضراب وتلبية ومطالبه إذا ما تصاعد مع الأيام وتصاعد دعمه وتأييده تصاعداً مطّردا.
المهم أن يُقرأ الظرف الذي يمر به إضراب الأسرى باعتباره امتلاكا لزمام المبادرة في مواجهة مخططات واستراتيجيات ترامب في الموضوع الفلسطيني والعربي – الإسلامي عموما، كما اعتباره في المقابل إرباكا واعتراضا لتوجهات ترامب – نتنياهو (ومن سيشارك معهما) في مرحلة الصراع الراهنة التي يريد ترامب أن يكون المبادر فيها، والواضع لتوجهاتها العامة.
لهذا فإن التعامل مع إضراب الأسرى باعتباره معركة كبرى في طريق الانتفاضة الشاملة في القدس والضفة الغربية يجعل من الضروري والأولوية تركيز كل الجهود من أجل تأمين أوسع دعم شعبي فلسطيني وعربي وإسلامي وعالمي له.