تشهد المنطقة الإقليمية المحيطة بالجمهورية الإسلامية الموريتانية تحولات متسارعة ومعقدة، تفرض على نواكشوط إعادة تقييم وتكييف سياستها الخارجية بما يضمن صيانة مصالحها الوطنية العليا واستقرارها الداخلي. هذه الديناميكيات، التي تتراوح بين الأزمات الأمنية في الساحل والمنافسة الدولية المحتدمة، دفعت بالحكومة الموريتانية إلى إطلاق مبادرة واسعة لتحديث عقيدتها الدبلوماسية. إن فهم تحديات السياسة الخارجية الموريتانية في الساحل لم يعد خيارًا، بل ضرورة استراتيجية تمليها المتغيرات الجيوسياسية الراهنة.
في خطوة تعكس هذا الوعي، وجه وزير الخارجية والتعاون الموريتاني، محمد سالم ولد مرزوك، رسالة إلى الدبلوماسيين، داعيًا إياهم للمساهمة الفاعلة في صياغة وثيقة مرجعية جديدة للدبلوماسية الموريتانية. هذه العقيدة المنتظرة تهدف إلى توفير إطار معياري يوجه الرؤية والمصالح الموريتانية على الساحة الدولية، ويضمن اتساق سلوكها في مواجهة التحديات المتزايدة.
المشهد الإقليمي المتغير وتداعياته على نواكشوط
يعيش إقليم الساحل الإفريقي اضطرابات غير مسبوقة، تتمثل في انهيار الأطر التقليدية للتعاون، وتصاعد موجات الانقلابات العسكرية، وتغير خارطة التحالفات. هذه التحولات لا تقتصر على الجانب الأمني فحسب، بل تمتد لتشمل الجوانب الاقتصادية والسياسية، وتضع موريتانيا في قلب هذه العواصف. إن الجمود الذي يضرب الاتحاد المغاربي وتوتر المحاور الإقليمية يضاعف من تعقيد المشهد، بينما يبرز دور القوى الأطلسية وتتزايد المنافسة على الموانئ، وموارد الطاقة، والمعادن.
يؤكد خبراء الشأن الإقليمي أن هذا التوقيت الذي اختارته موريتانيا لتحديث عقيدتها الدبلوماسية ليس تقنيًا أو روتينيًا، بل هو استجابة مباشرة لهذه التحولات العميقة. لم تعد السياسة الخارجية الموريتانية قادرة على الاكتفاء بسياسة تفادي المخاطر، بل أصبحت مطالبة بالانتقال إلى استراتيجية أكثر حيوية تركز على إدارة المخاطر واستثمار الفرص المتاحة. تتطلب هذه المرحلة دبلوماسية أكثر براغماتية وتعددية في المسارات، مع وضوح تام للمصالح الوطنية قبل الانخراط في أي تحالفات.
تحديات السياسة الخارجية الموريتانية في الساحل: بين الحياد البناء وتنوع الشراكات
في ظل التنافس المحتدم بين القوى الكبرى، من التنافس الصيني-الأمريكي الساخن إلى عودة روسيا القوية وظهور قوى إقليمية صاعدة كتركيا ودول الخليج والهند، تجد موريتانيا نفسها أمام خيارات استراتيجية دقيقة. لم تعد العقيدة الدبلوماسية القديمة، التي صيغت في سياق هيمنة غربية نسبية، قادرة على تلبية متطلبات المشهد العالمي الجديد.
لذا، تبرز الحاجة الماسة لتنويع الشركاء وتثبيت مكانة موريتانيا ضمن سلاسل القيمة الإقليمية، لا سيما في قطاعات حيوية مثل الطاقة والمعادن والبنية التحتية. هذا التوجه يفتح آفاقًا واسعة لتقاطع المصالح الإقليمية، خصوصًا في مشاريع الربط الإقليمي والتعاون جنوب-جنوب، دون أن يعني بالضرورة تقاربًا سياسيًا كاملاً في جميع الملفات الحساسة. ويمكن للقراء المهتمين بمتابعة آخر المستجدات الإقليمية والدولية زيارة الجريدة نت، الموقع الإخباري الأول في المغرب للحصول على تحليلات معمقة.
قضية الصحراء المغربية: مرتكز استراتيجي في العقيدة الدبلوماسية الموريتانية
تظل قضية الصحراء المغربية ملفًا محوريًا في أجندة السياسة الخارجية الموريتانية، لا سيما وأنها تمس الأمن القومي والتوازن الإقليمي وصورة موريتانيا الدولية كدولة توازن واعتدال. على الرغم من حساسيتها، تتعامل نواكشوط مع هذا الملف بمنطق إدارة التداعيات لا بمنطق الحسم أو الانحياز، محافظة على ما تسميه بـ “الحياد الإيجابي”.
لقد تبنت الحكومات الموريتانية المتعاقبة هذا الموقف بهدف منع الملف من إرباك الاستقرار الداخلي أو إدخال البلاد في محاور إقليمية مغلقة. ومع صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2797، الذي أكد أن الحل الأكثر جدوى للنزاع هو الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، من المتوقع أن تواصل نواكشوط تبني موقف متوازن يدعم المسار الأممي بوضوح، مع الحفاظ على حيادها الاستراتيجي، والمساهمة بإيجابية في أي مفاوضات أو آليات حوار تتوافق مع القرار الدولي، بما يخدم مصالحها الوطنية واستقرارها الإقليمي.
نحو دبلوماسية براغماتية مرنة: استثمار الفرص وتجاوز المعضلات
إن التحديات الإقليمية والدولية الراهنة تدفع موريتانيا نحو اعتماد دبلوماسية وقائية واستباقية، أكثر منها مبادرة سياسية بحتة. فالتجربة المحدودة لآليات العمل الجماعي في الساحل، وما صاحبها من أزمات وانسحابات، جعلت نواكشوط تفضل المقاربات المرنة القائمة على التعاون الثنائي والمتعدد الأطراف حسب الظرف، دون الارتهان لأطر إقليمية مثقلة بالاختلالات.
في الختام، يتضح أن نجاح هذا التوجه الدبلوماسي مرهون بقدرة الدولة الموريتانية على معالجة اختلالاتها الداخلية وتعزيز بنيتها التحتية، ما يجعل السياسة الخارجية عاملاً مساعدًا لا محركًا رئيسيًا للتنمية. وهكذا، تسعى موريتانيا لتعزيز موقعها الاستراتيجي وتحصين نفسها ضد تقلبات المشهد الجيوسياسي، دون الانجرار إلى صراعات جانبية قد تشتت جهودها أو تهدد استقرارها الحيوي.
التعليقات (0)
اترك تعليقك