تشهد الجمهورية الإسلامية الموريتانية فترة حاسمة تتطلب منها إعادة تقييم وتشكيل شامل لدبلوماسيتها وسياساتها الخارجية. تأتي هذه الحاجة الملحة في ظل محيط إقليمي ودولي يموج بتحولات عميقة ومعقدة، سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو الأمني. لم يعد الأمر يقتصر على مجرد تكييف روتيني، بل يستدعي صياغة جديدة لـ استراتيجية موريتانيا الخارجية في ظل التحديات الإقليمية، تضمن حماية مصالحها القومية واستقرارها الداخلي المستدام.
وفي هذا الإطار، وجه وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والموريتانيين في الخارج، محمد سالم ولد مرزوك، دعوة إلى الدبلوماسيين الموريتانيين، سواء في الإدارة المركزية أو في البعثات بالخارج، للمساهمة الفاعلة في بلورة وثيقة العقيدة الدبلوماسية للبلاد. هذه الوثيقة تُعد بمثابة الإطار المعياري الذي سيجسد رؤية موريتانيا ومصالحها، ويُرسخ انتظام توجهها واتساق سلوكها على الساحة الدولية.
محركات التغيير: سياق إقليمي ودولي مضطرب
تتعدد العوامل التي تفرض على نواكشوط هذه المراجعة العميقة. يوضح أحمد ولد عبيد، نائب رئيس حزب “الصواب” الموريتاني، أن توقيت تحديث العقيدة الدبلوماسية ليس تقنياً بحتاً، بل يرتبط بجملة من التحولات الجذرية. تشمل هذه التحولات:
- انهيار أطر التعاون التقليدية في الساحل: تشهد منطقة الساحل الأفريقي تغيرات دراماتيكية، مع تصاعد الحكم العسكري وتغير خرائط التحالفات، مما يضع ضغوطاً غير مسبوقة على دول المنطقة.
- الجمود الإقليمي والتنافس الدولي: يعاني الاتحاد المغاربي من جمود، في حين تتصاعد التوترات بين المحاور وتبرز المنافسة الدولية على الموانئ، الطاقة، والموارد الطبيعية، خاصة مع عودة روسيا وتصاعد الدور الأطلسي.
- صعود قوى عالمية وإقليمية جديدة: لم تعد الساحة الدولية خاضعة لهيمنة الغرب النسبية فقط، بل تشهد تنافساً صينياً-أمريكياً حاداً، وظهور قوى إقليمية صاعدة كتركيا ودول الخليج والهند، مما يتطلب دبلوماسية أكثر براغماتية وتعددية المسارات.
هذه المعطيات تفرض على موريتانيا إعادة تعريف مفهوم الحياد والانتقال من سياسة تفادي المخاطر إلى سياسة أكثر حيوية تركز على إدارة المخاطر واستثمار الفرص المتاحة.
ملف الصحراء المغربية: حياد استراتيجي ودعم أممي واضح
فيما يتعلق بملف الصحراء المغربية، يُعد هذا الملف بنيوياً ويلامس الأمن القومي والتوازن الإقليمي لموريتانيا، فضلاً عن صورتها الدولية كدولة اعتدال وتوازن. أكد الفاعل الحزبي أحمد ولد عبيد أن هذا الملف يحتل دائماً موقعاً مركزياً ولكن غير صدامي في الأجندة الخارجية، ويُدار بمنطق التحكم في التداعيات لا بمنطق الحسم أو الانحياز.
العقيدة الدبلوماسية الموريتانية التقليدية تعاملت مع هذا الملف كقضية يجب ألا تُربك الاستقرار الداخلي أو تُدخل البلاد في محاور إقليمية مغلقة. ووفقاً لمحمد عطيف، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة أبي شعيب الدكالي، فإن قرار مجلس الأمن رقم 2797، الذي أكد أن الحل الأكثر جدوى هو الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، يشكل مرجعية دولية تدعم موقف المغرب. ومن المتوقع أن تتبنى نواكشوط موقفاً متوازناً يحافظ على حيادها الاستراتيجي، بما يمكنها من الإسهام إيجابياً في أي مفاوضات تماشياً مع قرار مجلس الأمن.
تنويع الشراكات وتعزيز القدرة الاقتصادية: ركائز الاستراتيجية الجديدة
تدرك موريتانيا حاجتها الماسة إلى تنويع شركائها وتثبيت موقعها ضمن سلاسل القيمة الإقليمية، خاصة في قطاعات الطاقة، المعادن، والبنية التحتية. يرى عطيف أن هذا التوجه يفتح مجالاً لتقاطع المصالح الإقليمية، لا سيما في مشاريع الربط والتعاون جنوب-جنوب. ومع ذلك، يظل نجاح هذا التوجه مرهوناً بقدرة الدولة على معالجة اختلالاتها الداخلية، ليكون الدور الخارجي عاملاً مساعداً للتنمية لا محركاً رئيسياً لها.
الدبلوماسية الموريتانية اليوم تبدو محكومة بمنطق الوقاية والاستباق أكثر من منطق المبادرة السياسية، في ظل تجارب محدودة لآليات العمل الجماعي في الساحل. هذا يدفع نواكشوط لتفضيل مقاربات مرنة تعتمد على التعاون الثنائي والمتعدد حسب الظرف، دون الارتهان لأطر إقليمية مثقلة بالاختلالات.
خلاصة: دبلوماسية براغماتية في عالم متعدد الأقطاب
في الختام، إن صياغة استراتيجية موريتانيا الخارجية في ظل التحديات الإقليمية والدولية الراهنة تُعد خطوة استراتيجية حاسمة. تهدف موريتانيا من خلالها إلى تعزيز وضوح قرارها الدبلوماسي وتحسين التنسيق بين الفاعلين المؤسساتيين، لمواجهة التحديات الأمنية العابرة للحدود وضمان الاستقرار والتنمية. هذه الرؤية الجديدة تؤكد قدرة الدبلوماسية الموريتانية على تعزيز موقع الدولة الاستراتيجي دون الانجرار إلى صراعات جانبية، مع التركيز على المصالح الوطنية أولاً.
للمزيد من التحليلات والتقارير الإخبارية، تابعوا الجريدة نت، الموقع الإخباري الأول في المغرب.
التعليقات (0)
اترك تعليقك