لم تبدأ إدارة ترامب في كانون الثاني/ يناير 2017 كإدارة معتدلة. عندما يكون شخص مثل ستيف بانون كبير استراتيجيي البيت الأبيض، فإنك حتما تنطلق من موقع متطرف. لكن ما يحصل الآن من تعيينات جديدة في مراكز حساسة، مقابل التخلص من وجوه أخرى، يحيلنا على انفلات نحو تطرف متمادٍ وخطير. إذ إن جنون ترامب الشخص كان يواجه كوابح من داخل إدارته، وما يحصل الآن هو تفكيك هذه الكوابح.
كان التخلص من ستيف بانون مقابل هيمنة صهر ترامب على ملفات حساسة في الخارجية خاصة الشرق الأوسط، مؤشرا على صراع داخلي بين وجهين في التطرف. في المقابل، كان إنهاء مهام كل من ريك تيلرسون في الخارجية وتعيين رئيس وكالة المخابرات المركزية مايك بومبيو مكانه؛ مؤشرا على تغييب بعض أصوات الحد الأدنى العقلاني في الإدارة. في المقابل، عين ترامب متهمة في التعذيب في سجون أبو غريب، تم تجميدها عمليا من قبل أوساط الكونغرس بسبب دورها المباشر في مأسسة التعذيب، كرئيسة جديدة للوكالة الاستخباراتية الأهم في العالم.
ومباشرة بعد طرد تيلرسون بشكل مهين، تم الانتقال إلى موقع حساس آخر منصب مستشار الأمن القومي، والأسوأ تعيين أحد عتاة التطرف في المشهد السياسي الأمريكي.
وقد أعلنت وسائل الإعلام الأمريكية أمس؛ أن “الجنرال اللفتنانت ماكماستر، ضابط الجيش الذي تم اختباره في الحرب، والذي استُخدم كمستشار للأمن القومي للرئيس ترامب في العام الماضي لإرساء الاستقرار في عملية السياسة الخارجية المضطربة، سيستقيل ويحل محله جون بولتون، وهو سفير متشدد سابق للولايات المتحدة في الولايات المتحدة” (نيويورك تايمز).
وقد أشارت مصادر من داخل الإدارة إلى أن قرار إقالته اتخذ منذ أسابيع، لكن تم تسريع رحيله “لأن الأسئلة حول وضعه تلقي بظلالها على محادثاته مع المسؤولين الأجانب،” خاصة أن اللقاء بين ترامب والزعيم الكوري الشمالي قريب جدا.
ورغم نفي الإدارة حتى الآن أن هناك صراعا بين ترامب والجنرال ماكماستر، إلا أن أسلوب الأخير الجاد والمنظم من الأمور – على الأرجح – غير المريحة مع رئيس لا يملك سوى القليل من الصبر للتفاصيل وفهم مشاكل الأمن القومي المعقدة. كما أن معطيات سابقة أشارت بوضوح إلى خلافات بين ماكماستر وترامب في الملف الإيراني، بسبب تحذير الجنرال من التخلي عن الاتفاق النووي مع إيران بدون حساب لما سيحدث بعد ذلك، أيضا للاستراتيجية في أفغانستان. إذ رفض ترامب في الصيف الماضي الخطة التي قدمها الجنرال لتعزيز وجود قوات الولايات المتحدة في أفغانستان، على الرغم من أن الرئيس تبنى في نهاية المطاف استراتيجية تتطلب الزيادة بالآلاف في عدد القوات الأمريكية هناك.
يبقى أن المهم ليس مصدر الخلاف بين ترامب وماكماستر فقط، بل أيضا المغزى من تعيين جون بولتون مكانه. إذ سبق لبولتون أن قدم مقترحات تؤكد منهجه المعروف والمحرض على الحروب وعلى سياسة رعناء. إذ صرح بأنه يتعين على الولايات المتحدة إعلان الحرب على كل من كوريا الشمالية وإيران. وهذا منسجم مع تاريخه الأسود في الحرب على العراق. وكتبت وسائل إعلام أمريكية مقالات تعبر عن الخشية الكبيرة من هذا التعيين، إذ كتب موقع “Vox” (على سبيل الذكر لا الحصر) أن هذا التعيين “كأهم مسؤول للأمن القومي في البيت الأبيض، له آثار مهمة ومخيفة على مقاربة ترامب للعالم”.
من الناحية التقنية ستكون وظيفة بولتون الأساسية هي إدارة مجلس الأمن القومي، التنسيق وتوليف المقترحات السياسية المتضاربة أحيانا التي تنشأ من البنتاغون ووزارة الخارجية والوكالات الأخرى. والأهم، المفترض أن يقدم إلى الرئيس والإدارة الأمريكية تقييمات استراتيجية ورؤيته، ومن ثم ينقلها البيت الأبيض إلى بقية فروع الإدارة المعنية بالأمن القومي.
بمعنى آخر، فإن دوره يكمن في تنظيم وصياغة المعلومات التي تأتي إلى الرئيس، ومن ثم تقديم تقييم واضح ودقيق لما يحدث وكيفية الرد عليه. بيد أن تاريخ بولتون يجعلنا نتصور من الآن أن مقترحاته لن تعكس تشخيصا دقيقا وجديا للواقع؛ بقدر ما ستعكس رغباته وشهواته المؤدلجة.
وهنا، من الضروري التذكير بأن بولتون يحظى بشعبية خاصة في الأوساط الإسلاموفوبية في الولايات المتحدة، ويتبنى ما يعرف بحركة “الجهاد المضاد” ، والتي تعتبر أن هناك مؤامرة إسلامية لاختراق الحكومة الأمريكية، وأن القانون الأمريكي ذاته بصدد الذوبان تحت تأثير قانون إسلامي قادم من الخارج.
ويذكرنا موقع “فوكس”: “كتب بولتون مقدمة كتاب لاثنين من أبرز الجهاديين المعادين، وهما باميلا جيلر وروبرت سبنسر، في عامي 2010. وفي عام 2016، تحدث بولتون في مؤتمر عقده تحالف الحرية الأمريكي، الذي يعتبر “مجموعة كراهية”، تحت عنوان “هل يمكن للإسلام التعايش مع الغرب؟”. واحتوى خطابه آنذاك على “نكتة” مفادها أن الرئيس أوباما كان مسلماً”.
وقال أحد الباحثين لذات الموقع: “الولايات المتحدة لم تصل إلى الحضيض في علاقاتنا الدولية، لكن مع بولتون يمكننا أن نصله”. وفي اعتقادي أنه لا يبالغ البتة.